عبد المجيد طعام / مسارات فكرية
الفرح / السعادة من المواضيع المهمة التي تناولها سبينوزا في جانبه الأخلاقي من فلسفته. لكن تناوله لهذا الموضوع جاء بطريقة متميزة عن باقي الفلاسفة من حيث الرؤية والتعبير، ارتبط حديثه عن الفرح بمذهبه الأخلاقي الذي بناه بشكل رياضي، ينطلق من بدايات ومبادئ ليصل إلى البرهان الأخلاقي الذي يمنح لكل مسألة أخلاقية قيمة حقيقية في ذاتها.
الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا من أبرز المفكرين في القرن السابع عشر، قاد بفكره ثورة تدعو إلى استقراء الذات وعلاقتها باللاهوت، إلا أن هذه الثورة انقلبت عليه حيث نبذته طائفته اليهودية بع أن اتهموه بالإلحاد لأن تصوره لله كان غريبا في عصره وفي عصرنا كذلك كنا سنتهمه بالإلحاد أيضا ، جاء سبينوزا بمفهوم ثوري عن لله ولا يمكن أن نفهم فلسفة الفرح دون معرفة إله سبينوزا فمن هو هذا الإله وما هي مواصفاته ؟
يعتبر مفهوم الله عند سبينوزا من أكثر المفاهيم إثارة للجدل في فلسفته. جاء بمفهوم مبتكر خرج عن المألوف وانزاح عن التقاليد الدينية المعروفة. يرى أن الله هو الوجود الأساسي والمطلق، وقدمه لنا عمله الأكثر شهرة ” L’Ethique” (“الأخلاق”). في هذا الكتاب تظهر تجليات الله السبينوزي هو الجوهر الأساسي والوحيد الذي يتألف منه كل شيء في الكون. الله هو المادة والطاقة والحياة، وكل شيء آخر موجود في الوجود يعتبر مظهرًا أو نموذجًا لهذا الجوهر. يتجسد الله في قوانين الطبيعة والكون. يطلق على هذا المفهوم “Deus sive Natura”، أي “الله أو الطبيعة”، الله والطبيعة هما وجهان لنفس الواقع. يرى سبينوزا، أن الله ليس كائنًا شخصيًا يتدخل في شؤون البشر بل هو النظام الأساسي الذي يحكم وجود الكون. الله مصدر كل الوجود وكل التأثيرات الموجودة في العالم. كل شيء يأخذ وجوده وقوته من الله، ويعتمد عليه لاستمرار وجوده. من هنا يرى سبينوزا أنه لا يمكن فهم الله في غياب الفهم الموضوعي للطبيعة الواقع والقوانين وهكذا يرى سبينوزا أن الأخلاق والحياة الجيدة ترتكزعلى الفهم العقلاني والموضوعي للواقع وقوانين الطبيعة التي تعد تعبيرًا عن إرادة الله وجوهره.على ضوء هذا التصور سيبني سبينوزا فلسفته التي تعرف بفلسفة الفرح أو فلسفة السعادة . كيف نعرف هذه الفلسفة ؟ وما هي مبادئها وخصائصها ؟
لم يكن سبينوزا أول فيلسوف يواجه إشكالية السعادة وإنما كنت هذ الإشكالية هما فلسفيا دار في فلكه جل الفلاسفة على مر التاريخ البشري لذا سنهتم بهذه الإشكالية كما طرحها الفلاسفة قبل أن نعرفها انطلاقا من فلسفة سبينوزا .تعددت آراء الفلاسفة حول مفهوم السعادة. ، اعتبر سقراط أن السعادة تكمن في المعرفة وممارسة الفضيلة. ربط سقراط السعادة بالحكمة، والحكمة هي اختيار الأفضل في أمور الحياة. سقراط هو الذي جعل الفلسفة تهبط من السماء إلى الأرض. وهذاا ما نلمسه حينما يتحدث عن السعادة فيقول: “السعادة ليست في الجمال ولا في القوة ولا في الثروة أو المجد، ولا في المظاهر الخارجية، ولكنها حالة معنوية خالصة، فالسعادة ليست في إشباع الملذات، وإنما في التمسك بالفضيلة”.
ومن هنا نجد أن السعادة عند سقراط هي نتيجة لحالة نفسية تتم عندما يحقق الإنسان انسجامًا بين رغباته الإنسانية من جهة وظروفه الحياتية من جهة أخرى. ما أراده سقراط من هذا الانسجام هو فكرة الاعتدال التي تحدث إذا استطاع الإنسان بالعقل التحكم في دوافعه وشهواته. عندما يصل الإنسان إلى المعرفة الصحيحة عن الفضائل، يصبح سعيدًا فتتحقق الفضيلة
بينما رأى أفلاطون أن السعادة تتحقق حينما يتحقق التوازن بين الروح والجسد والعقل.. ولذلك نظر أفلاطون إلى السعادة من زاوية مختلفة اعتبرها فضيلة من الفضائل الإنسانية، واعتبر الخير هو قمة هذه الفضائل. كما يرى أن السعادة هي الغاية العظمى للأخلاق، لا يمكن أن تتحقق بدون الاعتدال بين الفضائل الثلاثة: العقلية والشهوانية والغضبية. فكل قوة من هذه القوى الثلاث لها فضيلتها الخاصة، والسعادة تكون في اتباع الفضيلة…. مفهوم السعادة غالباً ما يتداخل عنده بمفهوم الخير الأقصى أو الخير الأسمى”. فالاعتدال الذي دعا إليه أفلاطون يحقق السعادة للإنسان، وهذا لا يتم إلا إذا سيطرت القوة العقلية على القوتين الآخرتين (الشهوانية والغضبية).
أما أرسطو فقد نظر إلى السعادة على أنها غاية الأفعال الإنسانية، فكل فعل يحقق السعادة هو فعل خير. تحدث في كتابه “الأخلاق النيقوماخية” عن دراسة السعادة وعرفها بأنها: “تبحث في أفعال الإنسان من حيث هو إنسان، وتقوم بتقرير ما ينبغي عليه وما ينبغي تجنبه، لتنظيم حياة الموجود البشري وتدبيرها على أحسن وجه”.
بينما ركز السفسطائيون على الأخلاق حتى أنهم جعلوا الإنسان مقياسًا لكل شيء. لذلك انطلق مفهوم السعادة عندهم من ذات الإنسان وتتمثل أساسًا في اكتساب ما يرونه مناسبًا، وكل شيء عندهم يُكتسب من خلال التعلم. أما الأبيقوريون الذين أطلقوا على السعادة اسم الملذات العليا، مثل النشاط العقلي وحب الجمال والعبادة الروحية، رفضوا أن تكون السعادة غاية في ذاتها، بمعنى أن أكون سعيداً عندما أرى نفسي جميلاً فقط. لذلك من العبث وصف السعادة بأنها وسيلة لتحقيق غايات أخرى. “السعادة لا تتم للإنسان إلا بالحكمة والتعقل والتمسك بالفضيلة، خاصة فضيلة الأمانة والعدالة. لذلك قسم أبيقور الملذات إلى ما هو طبيعي وضروري لحياة الإنسان كالأكل والنوم، والنوع الثاني إلى ما هو طبيعي ولكن ليس ضرورياً، مثل الملذات الحسية. ثم النوع الثالث إلى ما هو غير طبيعي وغير ضروري، مثل الملذات الكمالية. من هنا نجد أن الحكمة عند الأبيقوريين هي مبدأ الخيارات. ومن المستحيل عند الأبيقوريين أن يكون الإنسان سعيداً إذا لم يكن حكيماً.إذاً نرى أن أساس السعادة عند الأبيقوريين هو الحكمة، فعن طريقها نتجاوز كل العثرات من بؤس وشقاء وخوف من الموت، حتى نصل إلى السعادة الحقيقية. السعادة الحقيقية لا يحصل عليها إلا الإنسان الحكيم الذي يحقق السلام الداخلي.
أما الرواقيون، فقد نظروا إلى السعادة بطريقة تفوق النظرة الأبيقورية. السعادة عندهم لا يمكن أن تدخل حياة الإنسان إذا لم يتحرر من الشرور والمفاسد بواسطة العقل. “إن الذي يصيب الناس ويؤثر في حياتهم ليس الأشياء نفسها، بل رؤيتهم للأشياء. فمن كان يرى الموت شرًا يلقي الرعب منه في قلبه، ومن لم يكن يرى الموت شرًا سيقدم على مواجهته غير مبالي.”من هنا فإن الشر الذي نراه في العالم هو شر ضروري لأن له ضد وهو الخير. الله دائماً خير وعلى الدوام خير، لكن الشر الذي يعيق السعادة الإنسانية إنما هو الشر الصادر عن النفس الإنسانية. واعتبروا هذه الصفة للإنسان الناقص الذي “لا يرتقي بعقله وأفكاره إلى الطبيعة الكمالية… فتظل أفعاله من جنس موضوعاتها لا خير ولا شر، وينقصها لكي تصير خيرًا وفضيلة إن تصدر من العقل المطابق لمعقل الكمال.”
أما الفلاسفة المسلمون، فقد كان منظورهم للسعادة لا يختلف عن الفلاسفة اليونانيين كثيرًا. الغبطة الروحية التي توصل إلى معارف عليا اعتبروها طريق الدخول إلى الجنة. لقد أطلقوا عليها السعادة القصوى، وهي قمة أنواع السعادة التي يبتغيها الموجود البشري، وهذا لا يتم بدون تطهير النفس من شرور الحياة.
يمكن أن نقف عند بعض الفلسفة المسلمين لنرى رؤية كل واحد ونبدأ بالفارابي هو أبو نصر محمد بن محمد بن الفارابي، كان فيلسوفاً وعالماً من العصر الإسلامي الذهبي، ولد في مدينة فاراب في خراسان، والتي تقع الآن في أوزبكستان، في عام 872 ميلادية وتوفي في مراغة بخراسان في عام 950 ميلادية..
يعتبر السعادة هدفًا أساسيًا للحياة البشرية ويركز على الأخلاق والسياسة كوسيلة لتحقيقها. يتأسس مفهومه الفلسفي للسعادة على نظرية أفلاطون والأرسطو ، ولكن أضاف إليها بعض الأفكار المنسوبة للتقاليد الإسلامية.
وفقًا للفارابي، تتحقق السعادة عندما يتمكن الإنسان من تحقيق الفضيلة والكمال المعرفي والأخلاقي. يعتقد أن السعادة ليست مجرد متعة حسية أو مادية، بل تتمثل في تنمية الفطرة البشرية والقدرات العقلية والأخلاقية للإنسان. يمكن تحقيق السعادة من خلال العيش في مجتمع مبني على العدل والتكافل والأخلاق العالية، حيث يعمل الجميع معًا لتحقيق السعادة المشتركة. تعتمد فلسفة الفارابي للسعادة على التناغم بين الجوانب المعرفية والأخلاقية والسياسية للحياة البشرية.
ابن سينا،هو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا، المعروف باسم ابن سينا أو ابن النفيس، كان فيلسوفاً وطبيباً وعالماً من العصر الإسلامي الذهبي. وُلد في مدينة بخارى في أوزبكستان في عام 980 ميلادي، وتوفي في همدان بإيران في عام 1037 ميلادي.
واحد من أعظم الفلاسفة المسلمين والأطباء، يتبنى مفهوم السعادة الذي يتأسس على تقاليد الفلسفة اليونانية وخاصةً أفلاطون وأرسطو. ، السعادة عنده هي الهدف النهائي للحياة البشرية وتتمثل في تحقيق الكمال الإنساني الأخلاقي والمعرفي.
يعتقد أن السعادة تتحقق عندما ينمو الفرد عقليًا وأخلاقيًا ويسعى لتحقيق الفضيلة. السعادة ليست مجرد متعة حسية أو مادية، بل هي تطور نفسي وروحي للفرد. على الفرد العمل على تطوير قدراته العقلية والأخلاقية وموازنة شهواته وغرائزه لتحقيق السعادة. حسب ابن سينا يمكن للفرد تحقيق السعادة من خلال الاستمرار في التعلم والبحث عن المعرفة والتأمل في الوجود والكون. ويعتبر أن العقل النقي والواعي هو المفتاح لتحقيق السعادة، حيث يوفر الأدوات اللازمة للتفكير النقدي والتأمل وتقدير جمال الكون وتفسيره. بالإضافة إلى ذلك، يدعو ابن سينا إلى العيش بأخلاق عالية وإظهار التفاهم والتعاطف والتسامح تجاه الآخرين. يؤكد أن العلاقات الإنسانية الصحية والإيجابية تعزز السعادة الشخصية والجماعية.
ابن مسكويه وهو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا، المعروف باسم ابن مسكويه، كان فيلسوفاً وكاتباً إسلامياً من القرن الحادي عشر الميلادي. وُلد في مدينة مسكويه بإقليم خراسان في الجزء الشرقي من إيران، في عام 1004 ميلادي، وتوفي في ريّ في إقليم زرند بجنوب إيران في عام 1070 ميلادي. كان فيلسوفاً وكاتباً إسلامياً من القرن الحادي عشر الميلادي، وهو معروف بكتابه “الحكمة المتعلقة بالسعادة والحزن”، والذي يتناول فيه مفهوم السعادة وكيفية تحقيقها.
يرى ابن مسكويه، إن السعادة تتمثل هي الحالة الروحية التي يشعر بها الإنسان عندما يكون راضيًا عن نفسه وعن العالم الذي يعيش فيه، وهذا ما يعرف بالاستقرار الداخلي والتوازن النفسي. وعلى هذا الأساس، فإن السعادة تتحقق بالتوازن الدائم بين الأمور الروحية والمادية، والاعتدال في استخدام النعم التي منحها الله للإنسان، وعدم الانجرار إلى الغرور والتعصب والانغماس في الشهوات والمتع الفانية.
ويشير ابن مسكويه إلى أن السعادة تتحقق أيضًا عندما يتمكن الإنسان من تحقيق أهدافه الروحية والمعنوية، ومن إدراك أهمية العلاقات الاجتماعية الصحيحة والمتوازنة، ومن تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات في حياته.وبشكل عام، فإن ابن مسكويه يشير إلى أن السعادة تتحقق عندما يتمكن الإنسان من تحقيق التوازن والاعتدال في جميع جوانب حياته، وعندما يكون لديه إيمان قوي بالله والتزام بتعاليمه، وعندما يتمكن من مواجهة التحديات والصعوبات بثقة وإيجابية.
يختلف ابن مسكويه مع الرواقية في تحديد مفهوم السعادة. الرواقية يعتقدون أن الناس خيرون بطبعهم ،ثم يتحولون إلى أشرار بسبب مصاحبتهم للشر. أما ابن مسكويه يعتقد أن الإنسان يولد بنفس مزدوجة، فيها الخير والشر، وتتطور النفس الإنسانية وتتحقق السعادة من خلال مصارعة الشر الذي يكمن في النفس وتعزيز الخير الذي يوجد داخل الإنسان. يعتقد أن التنمية الروحية والأخلاقية تأتي من التعامل مع هذه التناقضات والتحديات التي تواجه النفس الإنسانية.
وهكذا يكون مسكويه مسك الختام للحلقة الأولى من سلسلة حلقات عن فلسفة الفرح عند سبينوزا