عبد المجيد طعام
*مشاركتي في إطار الفعاليات التضامنية الفلسطينية ،من أجل دعم ونصرة غزة العزة
لم تكن تتصور أبدا أن مجرد التفكير في أمر مغادرتها للنفق سيؤلمها ، كل المدة التي قضتها محتجزة في ذلك الفضاء الضيق غيرت حياتها، لم تعد تنظر إلى الأشياء والأحداث بمنظارها القديم ، أحست بنضج يسري في كيانها ، غير أفكارها ومواقفها ، وجعلها أكثر قابلية للتعامل مع الأحداث بعقلانية .
كان الإعلام الحربي والسياسي لا يتوقف عن ترديد اسمها، يبشر أسرتها بقرب خلاصها من جحيم النفق ، لكنها لم تعد تبالي بما تنشره كل وسائل الإعلام ، لأنها لم تشعر ابدا باي خطر يهدد حياتها ، بالعكس أحست أنها على أحسن حال من أي وقت مضى ، لأنها ذاقت طعم الحرية ، وسرت معها لأول مرة فرحة التخلص من القيود التي كبلتها منذ أن وطئت قدماها تل أبيب ، واستقرت مع أسرتها بالكيبوتز المتاخم لقطاع غزة .
لم تكن ليڤ تهتم كثيرا بموقف المحتجزين الآخرين، كانت تعيش حياة مفعمة بحركة غير عادية ، لكنها تغيرت في الأيام الأخيرة ،أصبحت تبدو تائهة وكأنها تسبح في ما يشبه الفراغ ، انتابها حزن غير مفهوم ، ربما بسبب دنو موعد المغادرة، أو بسبب آخر يرفض وجهها أن يفصح عنه. ليڤ فتاة يهودية تجاوزت العشرين من عمرها ، عاشت وهي تقتات من الحلم الذي يسكن جدها وأبيها ، حلم الأرض الموعودة ، الأرض التي حرر الله نفسه عقد ملكيتها ، وسلمه إلى أنبياء اليهود الذين يخطئهم العد .
حينما أقبل حسن ليخبرها باقتراب موعد إطلاق سراحها ، احست وكأن قذيفة سقطت على رأسها أبادت كل أحلامها الجديدة ، التي رأتها تولد وتكبر أمامها داخل النفق. قال لها حسن :” ليڤ ستغادرين النفق بعد أيام قليلة ، بمجرد ما يسري مفعول اتفاق وقف إطلاق النار وتتوقف العصابة الصهيونية عن قصف الفلسطينيين العزل ،ستعودين الى أهلك وذويك ” .
رفض وجه ليڤ أن يعبر عن أي رد فعل ، ظل جامدا وغامضا ، إلى أن أفرج ثغرها عن ابتسامة تائهة ، ثم استسلمت في صمت لهدير صوتها الداخلي :” ومن قال لهم اريد ان اعود إلى أهلي ؟ من هم أهلي ؟ أأهلي هم أولئك المجرمون الذين يبيدون شعبا ويغتالون أطفالا ؟ يا إلهي! لم أعد أعرف! لم أعد أفهم! “
بعد أن سكن هديرها الداخلي ،رفعت عينين حزينتين نحو حسن وقالت له بهمس دامع : ” آه ! لقد مرت أيام الاحتجاز سريعة ، جميلة وهادئة ، استأنست بهذا المكان الضيق يا حسن ! أصبحت أرى في النفق امتدادا لذاتي ، لقد عثرت داخله على وجودي وإنسانيتي وحريتي! لقد منح النفق معنى لحياتي !” نظر إليها حسن ، كشفت عيناه عن إحساس مزدوج فيه الكثير من الإعجاب وقليل من الارتباك ، لم يفه بكلمة واحدة ، أحس أنه يحتاج إلى جرعة ماء ليبتلع ريقه ،بعد أن استرجع أنفاسه قال لها:” ليڤ ! أنت اليهودية ابنة المستوطنين ، فهمت معنى النفق وأدركت دوره الحيوي بالنسبة لشعبنا ، العالم كله يا ليڤ يجهل حقيقة النفق ، يجهل دواعي وجوده ، يجهل كيف يمنح الحياة لشعبنا المناضل ، العالم كله لا يعرف الحقيقة ، يعرف فقط ما تريد شاشة التلفاز أن يعرف ، العالم كله يتتبع عبر الشاشات الكبيرة معاناة شعبنا كخبر عام ، أو كخبر عاجل يركض في شريط أسفل الشاشة ،دون أن يتمكن المشاهدون من قراءته ، أصبحت أخبار إبادة شعبنا لا تختلف عن كل الأخبار العامة التي لا تحرك في المشاهدين إلا انفعالات عابرة ، أحيانا كثيرة يختزلون كل معاناتنا في شريط من الصور ،لا يختلف عن شريط صور لمقابلة في كرة القدم . خارج النفق يا ليڤ يوجد عالم من دمار وموت ، لقد أبادت العصابات الصهيونية أزيد من عشيرين ألف فلسطيني ، إنهم يريدون إبادة كل الشعب الفلسطيني ليسرقوا كل فلسطين!!”
التفَّت ليڤ بصمتها البارد ،واستسلمت لهدير صوتها الداخلي مرة أخرى ، فجأة قررت أن توقف ذلك الهدير ، قالت لحسن :”أساطير ديننا ! سلطة وجبروت التلمود ! نفوذ رجال الدين! إعلامنا ! كل أشيائنا يا حسن ! جعلتنا نذوب في وهم الأرض الموعودة ، كما تذوب حبة سكر داخل فنجان قهوة من النوع الرديء ، تبعث مرارتها على الغثيان ، إننا نعيش غثيانا مأساويا ، تحول الوهم إلى سلاسل تقيدنا ،تمنعنا من أن نرى ما يحدث بأعيننا ، نحن نرى بأعين من اخترعوا الوهم يا حسن ! نحن نرى بأعين أهل السياسة ورجال الدين ، وهذا ما يحدث أيضا مع إخوانكم العرب ، جل الأنظمة العربية طبعت مع الوهم ،منحته حق إبادة الشعب الفلسطيني، للأسف ! ! “
كان حسن الفلسطيني الفدائي مكلفا بحراسة مجموعة من المحتجزين ، تتكون من رجلين وامرأتين إلى جانب ليڤ ، تم الإفراج عن الأربعة لأسباب إنسانية، وبقيت ليڤ تنتظر . توطدت العلاقة بينهما ، دارت بين الأسيرة والفدائي نقاشات طويلة ساخنة أحيانا ، تبادلا وجهات النظر في أمور كثيرة تخص الحياة والوجود، علاقة الإنسان بالأرض ،غياب الحقيقة وزيف التاريخ ، وسلطة الإعلام ، إلى أن لاح التعارض في ذهنها بين ما قرأته في قصص التلمود بنصوصه الدموية المقدسة ،وما شحنتها به الإيديولوجية الصهيونية من عنصرية مقيتة ،وما لمسته من قيم إنسانية داخل النفق ، كانت تقول لحسن :” إذا لم تكن هذه الأرض هي أرض الميعاد، أين إذن هي الأرض التي منحنا الله صك امتلاكها ؟ إذا خرجنا من هنا ، أين سنذهب ؟ ” كان برد عليها فيقول ” منذ سنة 1936 ارتكبت عصابات الهاغاناه مجازر ضد شعبنا، بلغت ذروتها سنة 1948 ،ولم تتوقف إلى يومنا هذا ، ستخرجين يا ليڤ من النفق لتصطدمي بمقبرة مفتوحة للأطفال والنساء والشيوخ من الشعب الفلسطيني ، خلال أيام احتجازك قتلت العصابات أكثر من 7 آلاف طفل ،فهل وجود الأطفال على قيد الحياة هو ما يحرمكم من أرض الميعاد ؟”
كان النقاش بين ليڤ وحسن يزداد حدة حينا ويهدأ حينا آخر ، و مع توالي أيام الاحتجاز وحدة النقاش ، وجدت ليڤ نفسها مضطرة للاعتراف بشيء مهم بدأ يتحرك بداخلها ، يمارس عليها ضغطا مؤلما ومريحا ، يبعث على القلق والاطمئنان في نفس الوقت .
ذات صباح لا يشبه أي صباح ، وهو يقدم لها فطورها ، أبت عيناها أن تغادرا عينيه ، أشرقت شمس ابتسامتها على النفق ، تعلن عن سر جديد يستبد بها ، قالت له:” أحبك يا حسن ، أريد أن أبقى معك، هنا داخل النفق ! أنا لا أرى طعما للحياة خارجه ! ألم تقل إن الأنفاق تمنح الحياة للشعب الفلسطيني ! لقد منحني هذا النفق الحياة يا حسن ! ” لم يرد عليها ، اكتفى بالنظر إليها من وراء قناعة وكوفيته ، خلع القناع عن وجهه وقال لها :” ليڤ ! غدا سأخرج إلى أرض المعركة ، إن عدت سنتحدث في الموضوع، أكيد سنتحدث ” نظر في عينيها ،ثم تركها في مكانها وانسحب . مرت ثلاثة أيام على خروج حسن إلى ساحة المعركة ، لم يعد إلى النفق ، أعياها الانتظار ، سألت عنه مدير العمليات الفدائية فقال لها :” لقد استشهد حسن! ! بعد أن استعدنا جسده وسلاحه وجدنا معه هذه الرسالة الموجهة إليك”
جلست ليڤ على طرف سريرها ،فإذا بصدى صوت حبيبها حسن يغمر النفق : “عزيزتي ليڤ ، المعارك هنا ضارية وشرسة ، قد استشهد في أي لحظة ، لهذا كتبت لك هذه الرسالة ، أتمنى أن تصلك ، لم يبق إلا يوم واحد أو أكثر بقليل حسب سير المفاوضات ، وتجدين نفسك حرة طليقة ، ستعودين إلى أسرتك التي تحتل أرضنا، أتمنى لك حياة سعيدة ، وإن كنت أشك في أنك ستكونين كذلك ،لأن الأرض التي تعيشين عليها هي أرض فلسطين ، أخبرك أنك لن تكوني أبدا في أمان على هذه الأرض ، لأن المقاومة لن تتوقف أبدا رغم حرب الإبادة التي تخوضها عصاباتكم ضد شعبنا ، أرجو أن تكون أيام النفق قد غيرتك ، أرجو أن تكوني قد عرفت من هم الإرهابيون الحقيقيون ، هل أنتم ، سارقو الأرض ؟ ام نحن ، المدافعون عن حقنا…. عزيزتي ليڤ ، أودعك ، واجب الوطن يناديني ، قد أستشهد في أي لحظة ، وقد أعود إلى النفق لأفرج عنك بنفسي.”
بعد أن كفكفت دموعها ، ولملمت أفكارها ومشاعرها المبعثرة أخبروها بضرورة تهييئ نفسها لمغادرة النفق . جمعت صورة حسن ورسالته ، وضعتهما داخل مذكرتها ، وهي تهم بالخروج ، ألقت نظرة على النفق الممتد في ذاتها ، ثم جلست على سريرها ، وبنبرة حاسمة قالت للفدائيين : “أنا أرفض أن أغادر النفق ! “
رفضت ليڤ أن تغادر، تشبثت بحقها في الاختيار، مارست حريتها التي تعلمتها وهي داخل فضائها الضيق الممتد ، قررت أن تبادر وتقاوم ، من داخل النفق كانت تتواصل مع العالم ، تكلمهم عن حق الشعب الفلسطيني في الأرض ، إلى أن استشهدت تحت نيران أهلها .
24/12/2023