الفلسفة الحديثة

فولتير أو العقل ملكا

(بقلم : خالد طحطح)
من خلال الدِّراسة البيوغرافِيَّة التَّاريخية لكاتب السِّيَّر الفرنسي الشَّهير جان أوريو، والموسومة بــ: فولتير أو العقل ملكا، والصَّادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السِّيَّاسات بقطر (أواخر 2018)، نقف على شخصية فريدة واستثنائية “لا تقبل التعريف” حسب تعبير دالامبير، إنه السيد فولتير “المتعدد الأشكال”، والذي يستحيل على المرء تثبيته في ركن أو زاوية معينة، إذ كيف يمكن الإمساك بانعكاسات مرآة متراقصة؟ وكيف يمكن تتبع الهوية الفردية للشخص، وهي تخضع في مسارها لتقلبات عديدة؟
لاشك أن هوية الفرد متكاثرة، على شاكلة الجذمور، فكل واحد حسب تعبير فيليكس غاتاري وجيل دولوز “متعدد”، ولذا فهناك رؤى مختلفة وليس قراءة واحدة حول شخصية تاريخية معينة، إذ تتعدد زوايا النظر، وعلى البيوغرافي أن يستحضر في ذهنه المكانة الخاصة التي يوليها التحليل النفسي للإنسان باعتباره حالة فردية نفسانية معقدة.
لمدَّةِ ست سنوات قضاها المؤلف، فيما سماه “أفضل صحبة على الإطلاق”، ذلك أن فولتير سحره بشكل غريب جدا، حتى أنه اعترف في نهاية المطاف بأن أفضل مُساعد له في إنجاز هذه السيرة الخاصة بهذه القامة الفكرية إنما هو “الروح القدس”، ومهما بدا الأمر بعيدا عن التصديق، فإنَّهُ قصد الرُّوح القدس المُتجسدة في شخصية فولتير نفسه، باعتبار الملهم.
بالطبع تبقى مسألة الحياد صعبة جدا بالنِّسبة لكاتب السِّيرة، لأنَّه منحاز أو متحامل بالضرورة، وهذا الانحياز أو التحامل يبدأ من لحظة اختياره الشخصية موضوعا للدراسة، فالتزامه هو الذي يتيح له إلى حد ما أن يقارب موضوع بحثه، وأن يدخل معه في حالة من التعاطف أو النفور، ومن الصعوبة التجرد من الانتقاء والتضخيم، وهذه أشياء ملازمة لمثل هذا النوع، وهو أمرٌ غير مرفوض في من وجهة نظر الدِّراسة البيوغرافية، لكن في حدود، إذ لا يجب السقوط في نوعِيَّة الكتابات المنقبية.
اعتكف المؤلف جان أوريو في مقر إقامته بمراكش على مصادر متعددة لإنجاز هذا العمل الضخم، وقد وفر له هدوء المكان جوّاً مريحا جدا، جعله يعيش وسط شعب ودود، بصحبة فيلسوف الأنوار الذي تكيَّف بدوره وسط مناخ مُضيفي موَلِّفِهِ تكيُّفا تامّاً، فكانت النتيجة عملا مُلهما أماط اللثام فيه بكل عناية عن فضائل فولتير ولم يُهمل عيوبه، تاركا للقارئ عناية إشباع رغبته منها أو نسيانها.
فولتير هو تصحيف لاسم أرويه، فيما يقول البعض أنَّه اسم للأرض، وما عُرفت قطعة بَرِّيَّةٌ قطعا بهذا الاسم، وغالب الظن أنه اتَّخذ اسم فولتير حتى لا يُدعى أرويه مثل أخيه ووالده وباقي عائلته، إذ رغب في أن يتميَّز عن عائلته التي كان يستهزئ بها في كل مرة تحدث عنها، فهو لم يكن في حاجة إلى نسب يحميه.
في سيرته عن فولتير يُبرز لنا جان أوريو صورة مُغايرة عن هذه الشَّخصية الفذَّة، إذ يُقدِّمه لنا كشخص أوروبي، فقلَّما كان يعبأ بالدِّعاية القومية، إذ بالكاد ما تجد في كتاباته أثر من زهو قومي. كما بيَّن عظمته من خلال تبيان إحساسه بالتضامن الإنساني، فكل مَسٍّ بالحرية والعدالة غير مقبول لديه. فحين جرى إعدام جان كالا تقطيعا، سمعنا صرخات فولتير ترتفع من جنيف توجُّعا وسخطا كأنما التعذيب وقع عليه، فليس كالا وحده هو الذي أصيب، إنما الإنسانية جمعاء من جرحت به، وقد مهد فولتير كتابه “رسالة في التسامح” بتقديم رواية مُسهبة عن جريمة قتل جان كالا في مدينة تولوز سنة 1762م. كانت القضية مبهمة وغريبة، وتتعلق في النِّهاية بمسألة التعصُّب الديني، وبقضية اتِّهام الأب بقتل الابن إرضاءً لله، وهي القضايا التي لاتزال تتكرر إلى اليوم.
إن الحدث المأساوي الذي انتهى بإعدام جان كالا ساقه القدر لفولتير. فكان فرصة أبرز من خلالها سطوة مفكر استثنائي استطاع لوحده الوقوف في وجه تكتل قضاة ومحلفي تولوز ممن أصدروا حكم الإدانة.
لقد تمكن من الانتصار للعدالة في النِّهاية رغم كل العوائق والصعوبات، وحقق لنفسه شرفا لا نظير له. بل إن عددا كبيرا من المؤلفين يعودون إلى قضية جان كالا، ويجعلون منها الحدث الممهد لبروز سلطة المثقفين.
كان جان كالا- كما روى فولتير- رجلا في الثمانية والستين من عمره، تاجرا بروتستانتيا على غرار زوجته وأبنائه، باستثناء واحد منهم جحد وارتد عنها إلى الكاثوليكية، ويدعى مارك. انتحر هذا الأخير لأسباب يتعذر ذكر تفاصيلها، ويتعلق الأمر اختصارا بإدمانه القمار، وقد اتُّهم الأب بقتل ولده وخنقه لمنعه من الارتداد عن مذهبه الديني. تحوَّلت إشاعة قتل الأب لولده إلى اعتقاد راسخ لدى سكان المدينة ذات الأغلبية الكاثوليكية، وتم التأكيد أن تعاليم البروتستانتية تحض الآباء على قتل أبنائهم في حال إفصاحهم عن الرَّغبة في التحول للكاثوليكية. لم يكن هناك دليل ضِدَّ الأب، بل كان من المستحيل حدوث مثل هذه الجريمة، وذلك لأسباب كثيرة منها البنية القوية للابن المنتحر، وقد أصَرَّ القضاة على إدانة جان كالا.
كانت المحاكمة صورية وتخللتها جلسات طويلة من الاستجواب الممزوجة بالتعذيب الشديد، وانتهت المحكمة بإصدار حكم الإعدام في حقِّ الأب، وصودرت أملاكه، فيما تم الإفراج عن أخيه وأمه. وقد لجأت هذه الأخيرة إلى فولتير، الذي ساند قضيتهم، وألف بمناسبتها رسالته الشهيرة في التسامح، فغذت بذلك قضية كالا قضية إنسانية، إذ أحدث هذا الكتاب الصغير انقلابا في الرأي العام، وإن الناس الذين عاشوا من بعد ما أعيد الاعتبار لكالا مدينون لفولتير، الذي ربح دعوى الاعتبار، فأخيرا نقض الحكم الصادر في تولوز بعد سنتين من صدوره، وجرى استقبال السيدة كالا وابنتيها من طرف الملكة في قصر فرساي، في حين قدم الملك تعويضا ماديا للأسرة المكلومة.
اتسمت حياة فولتير بعدها بالكثير من التقلبات، وإن غلب عليها التشنج في علاقته برجال الدين المسيحيين، فقد كان كثير التهجم عليهم وعلى ممارساتهم، وهو أمر ستكون له نتائج وخيمة على مصير جثته، ذلك أنه رفض أثناء احتضاره الإصغاء لنصيحة الأب غوتييه، الذي طالبه ببيان الرجوع إلى الإيمان. فحين سأله الأب غوتييه:”هل تعترف بألوهية يسوع المسيح؟” كرر فولتير القول: “يسوع المسيح؟ يسوع المسيح؟ دعني أمت بسلام”. وقام بحركة ليبعد الأب عنه.
ويقال أن فولتير قبل موته بوقت قصير دخل في نوبة هذيان وكان يصرخ بسخط مسعور: “أنا مهمل من الله ومن البشر”.
حين أسلم الروح يوم 29 ماي 1778م، ستكمل جثته المسيرة الأكثر إدهاشا في تاريخ الجثث المضطربة، إذ رفضت السلطات الكنسية في باريس أن تهب له جنازة دينية.
وبحضور جراح وصيدلاني تم تشريح الجثة وتحنيطها، غير أن الصيدلاني قام بالاحتفاظ شخصيا بالدماغ ضمن أغراضه، وذلك بعد أن قام بغليه في الكحول ووضعه في وعاء زجاجي حمله معه. أما القلب فقد كان من نصيب صديق المرحوم المدعو دو فيليت. بعد خياطة الجثة وإغلاق الجمجمة، تم وضع المومياء في عربة تجرها ستة خيول، وبدأت رحلة سرية في يوم حار إلى دير سيليير، بالقرب من تروا، حيث لم يتردد رئيس الدير في المغامرة بالمرافقة على دفنه في الكنيسة، قرب المذبح. حيث وري التابوت الثرى وغطي بالحجر، ووضعوا فوق القبر علامة منقوشة للتعرف على موقعه.
بعد نجاح الثورة الفرنسية التمعت فكرة إعادة الاعتبار لفولتير، الذي يعد أبا للوطن والثورة، وصارت الدعوة تتصاعد بنقل رفاته إلى باريس، خاصة وأن دير سيليير الذي دفن فيه كان خرابا، ولم يكن من المستبعد هدمه ورمي بقايا الرفاة في المقبرة الجماعية، ولذلك كان من المرتقب أن تبدأ مجددا رحلة مرتقبة للجثمان المتحرك، لكنها هذه المرة رحلة وطنية. وهكذا تعرض الجثمان للنبش في ماي 1791م، وكانت النتيجة فقدان القدم اليسرى التي سرقت من الجثة يومئذ، وقام أحد الماكرين بسرقة اثنين من الأسنان، وصنع من إحداهما تعويذة، وكانت تتدلى من سلسلة تحيط بعنقه.
وما تبقى من أعضاء الجثة تمت إحاطته بورق السنديان وتم حملها إلى روملي، وقد سرت بالمدينة حكاية خرافية مضمونها أن رجلا ضخما تسلل في الليل وقام باختلاس جثة فولتير واستبدلها بجثة بستاني، ولئن كانت الحكاية بلا قوام، فإنها تظهر إلى أي حد بلغ التشوش مبلغه بسبب الجثة الساحرة لفولتير. استكملت مسيرة نقل الرفاة من روملي إلى باريس بدون متاعب، فقد كانت مسيرة الموكب عظيمة جدا، تتقدمها الخيالة، وآلاف الباريسيين يهتفون بصوت مرتفع تحية لتمثال فولتير المرافق للنعش، وقد وصل الموكب في النهاية إلى قبو البانتيون، حيث سيرقد في سلام إلى حدود سنة 1814م، وهو تاريخ اندلاع الربيع الأوربي، حيث استغل متطرفون الظرفية فقرروا سرا رفع رفات فولتير وروسو ورميهما في مكب النفايات باعتبارهما ملحدين مدفونين بطريقة غير شرعية في كنيسة البانتيون، وقد أعاد هؤلاء المتطرفون إغلاق التابوتين الفارغين في سرية تامة ودون أن يعلم بالواقعة أحد.
وقد لزم انتظار عهد الإمبراطورية الثانية ليقوم صحافي بتفجير فضيحة رمي رفات جثة فولتير في مستودع النفايات، وقد فتح تحقيق في الأمر بأمر من الامبراطور، ويقال أن المحققين وجدوا التابوت فارغا، وإذا ما استثنينا القلب والدماغ والقدم اليسرى والسِّنَتَان، فإنه لم يتبق شيء من فولتير غير فكره الحي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى