ابن باجة فيلسوف لم ينته بعد مسلسل اغتياله ….
إعداد : عبد المجيد طعام
تعرف فلسفة ابن باجة بأنها سعي دؤوب لـمصالحة الفلسفة مع الحياة، أو ما وراء الطبيعة مع الطبيعة، كان يرى أن العقل هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه المهمة، جمع في فلسفته الإسلامية بين نظام أرسطو العقلي وتأملات أفلاطون الروحية، واعتمد على كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، و”الأخلاق” و”الحس والمحسوس” لأرسطو، و”السياسة المدنية” و”رسالة العقل” للفارابي في شرح مفاهيمه العقلية وطروحاته الفلسفية. كان ابن باجة فيلسوفا حداثيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، كان يرى أن الفلسفة حق لجميع الناس ، لأنها الطريق نحو السعادة ، والإنسان بطبعه يسعى بشكل دائم لتحقيقها ، الفلسفة تحمل غاية عملية تتمثل في تحقيق سعادة البشر، هذه السعادة تتحقق عن طريق وصول الإنسان إلى أعلى مراحل التعقل التي يجسدها العقل الفعال. لقد ربط ابن باجة بشكل وثيق بين سعادة الإنسان العقل وحرية الاختيار ، وخالف في آرائه الفلسفية “ابن سينا” و”الفارابي”، لأنه كان يرى أن آراء هذين الفيلسوفين مبنية على أسس الدين، وليس على أصول العلم والمنطق، كان يعتقد أن العلم التطبيقي علم مفيد للإنسان؛ لأنه ييسر للناس حياتهم اليومية. لم يكتفِ ابن باجة بتمجيد العقل، بل اتجه إلى تقديسه، فاحتل المرتبة الأولى في الأهمية عنده، المعرفة الصحيحة، والمعرفة المطلقة، والسعادة والأخلاق، كلها شؤون مبنية على العقل، كما أن الإنسان يستطيع بواسطة عقله أن يدرك كل شيء، من أدنى مدركات الوجود المادية، إلى أعلى درجات الوجود أي الوجود الإلهي. آثر ابن باجة العزلة والابتعاد عن الناس ، وأولى أهمية أكثر في كتاباته إلى موضوع التوحد والاغتراب على الواقع ، نتيجة معاناة شخصية ونفسية ، دفعت به إلى “التنظير” للعزلة والابتعاد عن الحياة السياسية والاجتماعية .
تعبر فلسفة ابن باجة في مجملها عن القلق الذي يعيشه الفيلسوف بشكل عام، وكتابه “تدبير المتوحد” يعبر عن فشله في تحقيق “برنامجه السياسي” المعبر عن رؤيته للمدينة الفاضلة واستحالة الوصول إليها في زمانه.
كل مصنفات ابن باجة أصابها الإهمال ، فاندثر مجملها، ولم يبق منها إلا كتاب تدبير المتوحد: كان لهذا الكتاب أهميةً كبيرة، اهتم فيه بالحديث عن أهمية استخدام الأفراد للعقل الفعّال، كما ركز على كيفية نهوض المجتمع وازدهاره وصلاحه. لم يُكتب لهذا الكتاب المهم أن يحقّق ويدرس إلا في بداية القرن العشرين، اكتشفه الباحثِ الإسباني أسين بلاثيوس Asin Palacios الذي يعودُ لهُ الفضلُ الكبيرُ في بعثهِ ونفضِ غبارِ النسيانِ عنهُ.
“تدبير المتوحد” هو كتاب تخيل فيه ابن باجة مدينة لا يشغل اهلها غير تدبير واحد أو غاية واحدة ، تحقيق السعادة اعتمادا على العقل.
كم هو مؤلم أن يكون صاحب هذا النوع من التفكير العقلاني الحداثي عرضة للتآمر، والاضطهاد وسوء المعاملة؛ بسبب نفوذ الفقهاء الذين سيطروا على العقول ،ونشروا الجهل وحاربوا العلم والفكر ، ونحن نعرف كما هو الحال في زماننا ، أن مناصري العقلانية يحاصرون ويضطهدون.
في الخفاء ستحاك المؤامرات ضد ابن باجة لاغتياله، وتصفية العقل والعقلانية والفكر والفلسفة . تخبرنا بعض المصادر التاريخية بما تعرض له ابن باجة من أذى على يد أعداء الفلسفة والعقلانية، لقد عقدوا العزم على اغتياله ، يقول عنه ابن أبي أصيبعة ، اشتهر بكتابه “عيون الأنباء في طبقات الأطباء”، وهو من أمهات المصادر لدراسة تاريخ الطب عند العرب يقول:” ابتلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام وقصدوا هلاكه مرات ”
إن طبيعة فلسفة ابن باجة هي سبب العداء الذي شنه الفقهاء وأهل السياسة ضده ، لأنهم كانوا يرون أن فلسفته تمثل خروجا عن السائد في مجالي الدين والأخلاق ،كما رأى فيه أهل السياسة تهديدا لمصالحهم ، خاصة وأنه أشاع أفكارا أزعجت السلطات الدينية والسياسية، دعا إلى بناء المدينة الكاملة، كما نقد الواقع السياسي والاجتماعي ، وكان يؤسس لمشروع سياسي يكون فيه العقل هو القائد المرشد، كان يؤمن بأن التدبير المدني الحكيم يجب أن ينهل من العقل والفلسفة ، ويدعو إلى ضرورة انسحاب الفقهاء من المشهد السياسي ، ويحل محلهم الفلاسفة ، كما أصر على ضرورة التوقف عن الحكم باسم الدين ، ليحل محله الحكم باسم العقل.
كان يشعر ابن باجة بالخطر يتربص به كأي مفكّرٍ حرٍّ ، يعيش وسط مجتمع متعصِّبٍ ومتطرف ، يرفض الفلسفة وعلومِها ، وقد سبق أن تعرض للحصار مفكر آخر اسمه مالك بن وهيب الإشبيلي كان سابقا على ابن باجة، وعُرِفَ بالاشتغال بالفلسفة ،لكنه اضطر غصبا على الابتعاد عنها بسبب الخوف من أعدائها الذين أفتوا في الأخير بقتله.
كانت التهمة في ذلك العصر جاهزة ،كما هي جاهزة في عصرنا هذا ، تلصق بكل مشتغل بالفلسفة ، ألصقت بابن باجة من طرف الأديب المعروف الفتح بن خاقان ، الذي يعد من بين أكثر من ظَلَمَ هذا الفيلسوف الحداثي ، اتهمهُ في دينه. كانت لهذا الأديب مع الفيلسوف خصومة مشهورة، وبسببها شَوَّهَ سيرتهُ ولفَّقَ لهُ تهماً خطيرةً وقال عنه : “لا يأخُذُ في غير الأضاليل ولا يَشْرَعُ، ناهِيكَ عن رجل ما تطهر من جنابةٍ .. ولا أقر بباريهِ ومُصورهِ … الإساءةُ إليه أجدى من الإحسان، والبهيمةُ عندهُ أهدى من الإنسان، نظر في تلك التعاليم وفكر في أَجْرامِ الأفلاك وحدود الأقاليم. ورفض كتاب الله الحكيم العليم ونبذهُ وراء ظهره”
تتالت تهم الفتح بن خاقان على نحو لا يترك أي مجال لإمكانية الرأفة به، ألبسه صورة مجرم كافر تعدى حدوده ، وأساء للذات الإلهية ، فحق عليه القصاص ، أي القتل .
عاش ابن باجة محنا كثيرة ،فرضت عليه عزلة عن المحيط وخوفا من الاغتيال .. إن ما وقع له مع ابن خاقان هو جزء من حالة عامة، كان فيها العداء لابن باجة هو البارز، تم سجنه مرات عديدة من طرف النظام السياسي ، من هنا نقول إن أسباب محنة الفيلسوف ابن باجة تداخل فيها الديني بالسياسي ، لأن أفكاره تعارضت مع السلطتين ، الدينية والسياسية. سيضيق الخناق على الفيلسوف ، ويبدأ التفكير الجدي في اغتياله ، حيثُ سيتكلف حسب الروايات زميلهُ الطبيب ابن زهر بقتلهِ بمدينة فاس في شهر رمضان ، ماي سنة 1138 ، بعد أن وضعَ لهُ السم في طعامٍ من الباذِنْجَانِ.
وهكذا كانت النهاية المأساويَّة لفيلسوفٍ بذل الكثير من أجل التغيير ، ابن باجة فيلسوف كبير جدا ظلمه عصرهُ، تعرَّضت له العامَّةُ والخاصَّةُ ،وقعوا له صك اتهام جاهز لاعتبارات دينية وسياسية وفكرية .. اغتالوه شر اغتيال ، واغتالوا معه كتبه بإهمالها ونسيانها ، ويستمر ظلم الفيلسوف ابن باجة في زماننا هذا، بإقصائه من الأبحاثِ والدراساتِ التيِ تناولت الفلسفة الإسلاميَّة وقضاياها عامَّة بالدرس والقراءة والتحليل، لكن كتبه لم تحظ بتحقيقاتٍ علميَّة ولا دراساتٍ أكاديميَّة وأغلبُ ما كتبَ عنهُ تنقصهُ الدقةُ ،ولا يعدُو أن يكُونَ دراساتٌ سطحيَّة غارقةٌ في العُموميَّة والأحكام الجاهزة … ابن باجة فيلسوف لم ينته بعد مسلسل اغتياله …. النهاية