أختٌ، وحربان، وأيديولوجيات، وتحريفية مسيحية أو ماركسية، ورد فعل أخلاقوي معاصر: هذا لعمري أكثر مما يمكن أن يطيقه رجل واحد. لكن دعونا ندقق في حالات النكران هذه التي لا تخلو من الدلالة الآتية: الوضوح ليس مما يرغب فيه الإنسان، الذي يفضّل الوهم الناعم، والأخطاء المريحة، والنفاق المسيل للعاب، على الحقيقة الخام، والباردة، أو حتى القارصة. ذلك أن نيتشه يبثّ الذعر في النفوس، ويُذهلها، لأنه يتجرأ على الخوض في البداهة. وهنا تكمن القساوة التي لم ينِ يسعى إليها بجوارحه كلّها: قساوة المعرفة، وألم الحقيقة.
والحاصل أنّ نيتشه كان قد نشر كتاباته على حسابه الخاص، ولم يبع خلال حياته سوى ما يقارب الأربعين نسخة من كتابه [زرادشت]. وحين رفض سوق النشر الكلاسيكي استقباله، عرف أنه جاء في غير زمانه، وأنه مكرّس لأزمنة القوى العظمى، أي تلك الخاصة بالفكر المتطلّب. وبذا لم يكن نيتشه غافلاً عن مجيئه في غير أوانه، وبأن هذا من شأنه أن يجعله صالحاً في كل مكان وزمان. وفي هذا الصدد كتب في [هذا هو الإنسان]، أي في وقتٍ كان فيه على حافة هاوية على وشك أن يردي فيها: “قبل الحديث عن كتاباتي، من المناسب التساؤل فيم لو فُهمت أم لا. وهو سؤال سأطرحه بكل ما يلزم من السفاهة، لأنه سؤال بعيد كل البعد من أن يكون الشغل الشاغل للناس. وأنا كذلك لست شغلهم الشاغل، فمن الناس مَن يولد بعد مماته”.
ميشال أونفري/ الحكمة التراجيدية