يمانويل كانط .. كيف عاش أيامه الأخيرة؟
كه يلان محمد
حياة الفلاسفة هي عبارة عن سلسلة من الحروب التي يشنها هؤلاءُ ضد الأفكار والأنساق المتداعية، ويسبقُ النقدُ بناء المشاريع الفلسفية الجديدة إذ يكونُ الفيلسوف بمثابة قابلةٍ يُعينُ على ميلاد أفكار أنضجتها حركة التاريخ.
وهذا ما تعلمه سقراط من والدته عندما سألها كيف تقوم بتوليد الأمهات؟ وما من المرأة إلا أن قالت: إنّى في الواقع لا أفعل شيئاً. وإنما أكتفي بأن أعين الطفل على الإنطلاق. إذاً فإنَّ أسئلة الفلاسفة بشأن المفاهيم القديمة تؤذن بإنطلاقة التاريخ، وتحولٍ في الفكر. لذلك ثمةَ شخصيات تقترنُ أسماؤها بمحطات حاسمة في تطور الفكر الإنساني لعلَّ سقراط أول من وجدَ في إثارة السؤال وإشراك الآخر في البحث عن الإجابة أداة لدعم الحس الفلسفي. وهذا الأسلوب هو ما أصبحَ أساساً للمدرسة الرواقية والأبيقورية أو ما يسمى بالفلسفة العملية.
والمتأمل في الفلسفة الماركسية يرى فيها ملمحاً عملياً بعيداً عن الإدعاءات الخلاصية والجنة الأرضية الموعودة. إذ لولا ماركس لكان مفهوم الإستلاب غائباً في المعجم الفلسفي والتبس الوعي بما يشهدهُ الواقع من الصراعات المُحتدمة. إذاً فإنَّ النصوص الفلسفية بصفة عامة تضمرُ بعداً عملياً، وليس كل ما يأتي في السياق الفلسفي تنظيراً مجرداً. بل تحمل المقولات الفلسفية في طياتها جينات سقراطية. حتى ولو تمت معاداة بعض مواقف سقراط كما فعل ذلك نيتشه فلا محالةَ في التقاطع معه على مستوى المساعي الهادفة لتحويل الفلسفة إلى أسلوب الحياة، ربما قد سبق نيتشه القصب من بين نظرائه في هذا المضمار. وإذا كان الفلاسفة مختلفين في طريقة التفكير والمعجم التعبيري فإنَّ ما يجمعهم هو توصيف نيتشه إذ إنَّ الفيلسوف برأي الأخير هو طبيب الحضارة. ضف إلى ذلك فإنَّ تجارب الفلاسفة مع واقعهم تستحقُ النظرَ إليها كونَ ما تراه في أثرهم يكشف جانباً من طبعهم أو سلوكياتهم الحياتية، لكن هل ينطبقُ هذا الرأي على كل فيلسوف؟ ماعلاقة الفيسلوف الألماني إيمانويل كانط بثورته الفلسفية؟
المؤسس
من المعلوم أنَّ صاحب “نقد العقل الخالص” يعدُ مؤسساً لمشروع التنوير الأوروبي، وقد أعلن بأنَّ عصر النقد قد بدأَ ولم يعدْ هناك شيء إلا ويجبُ أن يطالهُ النقد، وبالتالي أصبح التنوير صنو العقلانية، ولن يتمُ تحقيق الإنطلاقة التنويرية دون الخروج من الوصاية والقصور العقلي. يقولُ هاشم صالح أنَّ كانط قد ضحى بحياته الشخصية وشطب عليها من أجل تحرير روح البشرية التي كانت مثقلةً بالقيود والأغلال.
يثير كتابه “الدين ضمن حدود العقل فقط” حنق الملك غليوم الثاني فيكتبُ له رسالةً شديدة اللهجة لافتاً نظره إلى أنَّ إستخدامه للفلسفة يسيء إلى العقائد الأساسية. وفي عهد هذا الملك القمعي يقول كانط كلمته المشهورة “قد لا أقول كل ما أعتقد به لكن لن أقول شيئاً لا أعتقد به” ما يعني أنَّ كانط لم يساومْ بشأن مشروعه، وكان يلجأُ إلى الصمت وهو أضعف الإيمان. وما رشحَ عن حياة كانط الشخصية ويومياته يوحي بإنتظام برنامجه المعيشي. أما على المستوى العاطفي فقد اعتبرت الحياة الجنسية لكانط من أخطر المسائل الميتافيزيقية في الغرب فإن سجله يكادُ يكون خالياً من العلاقات الحميمية. ولا يوجدُ ما يخالفُ هذا المنحى المتنسك في الكتاب الذي نشره الروائي الإنكليزي توماس دي كوينسي بعنوان “أيام إيمانويل كانط الأخيرة”، وبذلك قد أضاف كانط بسيرته إحتمالاً آخر لأفق التفلسف سابقاً قد صرحَ سقراط بأنَّ من لم يحظ بزيجة سعيدة يمكنه الهروب إلى الفلسفة، كذلك فالفلسفة خيار قائم بناءً على تجربة كانط بالنسبة لكل محروم من مغامرات عاطفية.
في مطلق الأحوال يستفيدُ المرءُ من هذا النشاط العقلي، ألم يعترف باراك أوباما بأنه قرأ ماركس في الجامعة ليس للتثقف بمباديء الشيوعية إنما إعجاباً بساقين طويلتين للحسناء اليسارية. يعتقدُ الفيلسوف الألماني نيتشه بأن سقراط ما كان سيصبح أكبر مُجادل في أثينا، لولا مناكدات زوجته لكن ماذا إستفاد نيشته نفسه من مرارة تجربته مع سالومي فلسفيا؟ ربما أصبح أكثر تبصراً بضرورة تقويض الوهم خصوصاً، ما هو صنيع رغبة الذات.
مهما يكن الأمر فإنَّ السؤال بشأن الحياة الشخصية للفلاسفة يظلُ قائماً وغالباً ما يكون الدافع وراء البحث عن كواليس حياتهم هو الإعجاب بالريادة الفكرية للمنشقين عن التيار. تميزت شخصية كانط بالهدوء والإنضباط، وكان تغمرهُ السعادة كلما سمع عن نجاح تلامذته ورخاء معيشتهم حسب ما ينقل ذلك توماس دي كوينسي من واسيانسكي.
البعد الآخر
يقولُ صاحب “الراهبة الإسبانيةط بأنَّه لا يوجد فيلسوف بإستثناء أرسطو يضاهي كانط في مدى تأثيره على العقول البشرية. هذا القول على إيجازه يبينُ ما يعني اسم كانط في مسيرة الفكر الفلسفي. وكانت للرجل سلوكيات يومية وترتيبات شخصية يشيرُ تلميذه واسيانسكي إلى أن إحياء علاقته بكانط تزامن مع تغيرات في يومياته، فقد كان من عادته سابقاً أن يتناولَ في أحد المطاعم وجبة ثابتة، ومن ثمَّ ما لبث أن لازم بيته داعياً صديقين لتناول المائدة أو يقيمُ حفلاً صغيراً من خمسة إلى ثمانية من أصدقائه. وما أن يخبرهُ خادمه “لامب” بأنَّ المأدبة جاهزة حتى يتقدم ضيوفه محدثاً إياهم عن الطقس، وهذا ما اعتاد عليه متجنباً التطرق إلى السياسة قبل العشاء.
وكانت مائدة كانط سخيةً والمطلوب من كل شخص أن يخدم نفسه بنفسه. واعتبرت ضيافة كانط فرصة ممتعة بالنسبة لكل من تصله الدعوة. إذ وجد كانط في الساعات التي كان يمضيها برفقة أصدقائه مجالاً للإسترخاء والإستراحة من عناء العمل الفكري. يذكر أنَّ فيلسوف الأخلاق ما كان يحبذُ التلميح إلى مشروعه الفلسفي، ويصح وصف حفلات كانط بأنها كانت بمثابة مشهد مصغر لمدينة كونيغسبرغ، لأنَّها تتسع للحضور من مختلف مشارب الحياة والفئات الإجتماعية. والأهم في هذا السياق هو ترفع كانط عن التلفط بمصطلحات معقدة ولم يبدُ بصرامة رجل الفكر في محادثاته، إنما كان يميلُ إلى البساطة في التعبير.
وعندما كان يدور الكلامُ عن السياسة يظهر كانط بصورة من على دراية بخبايا الأحداث. إذ أبانت التطورات السياسية والعسكرية صحةَ عدد من تخميناته. وقد كان يبدي كانط تعاطفه مع أي صديق يلم به المرضُ ويتابعُ أخباره وينتظرُ تعافيه لكن ما أن يتم الإعلان عن وفاة المريض حتى يستعيد رباطة جأشه يعبرُ هذا الموقفُ عن رؤية كانط لتحديات وجودية، فالمرض عبارة عن التأرجح بين الخوف والأمل، ويستبطنُ المؤلف نظرة أستاذه عن الموت بوصفه حالة دائمة يتم التسليم بها دون الإعتراض ولم يضع كانط حالة الموت في أي من حالات الإحساس بل اعتبرها واحدة من المظاهر الثابتة غير قابلة للتغيير.
المشاء
كان المشي والتنزه جزءاً أساسياً من يوميات كانط، وهو من صنف الفلاسفة المشائيين الذين لم ينفصل لديهم التأمل عن حركة الجسد. ويذكرُ دي كويني ما أصبح سجيةً في شخصية الفيلسوف الألماني. يخرجُ كانط بعد إنهاء حفل العشاء للتنزه وحيداً. ويعللُ المؤلف ذلك بأنَّ إيمانويل كانط أراد متابعة تأملاته الفلسفية، والتنفس بأنفه فحسب وهذا يستحيلُ عليه إذا تحدث. ما تعودَّ عليه مدشن التنوير من الرياضة ومواظبته عليها أكسبته حصانة مستمرة ضد نوبات الأمراض الموسمية. والأغرب فيما يردُ في صفحات الكتاب أن هو إرتباط تأملات كانط بالنظر إلى برج قديم في لوبينيخت من نافذة الغرفة حين تحجب عنه أشجار الحور في حديقة مجاورة هذا المشهد يساوره القلق، ولا يتمكن من متابعة تأملاته لكن مالك الحديقة يكنُّ إحتراما لكانط عندما عرض أمر إزالة الأشجار لم يتردد في قطعها وبذلك كشف الحجاب.
كانت قراءات كانط تستمر حتى العاشرة ليلاً وبربع ساعة قبل خلوده إلى النوم أراح رأسه من أفكار تتطلب أي قدر من الإنتباه. وكان كانط مهتماً بتفاصيل مكان نومه. ولم يستخدم المدفئة في غرفته مهما كانت شدة البرد. وما يطيبُ له ارتداء أي شيء يحتوي على أربطة خوفاً من أن يعرقل تدفق الدم. كان يتناول الفطور في الخامسة ولمرة واحدة في اليوم يدخن غليوناً. وفي السابعة يحين موعد الدرس والمحاضرات. يشار أن كانط في غرفة نومه قد احتفظ بمجموعة صغيرة من الكتب تصل إلى أربعمئة وخمسين كتاباً.
مع تقدم العمر ظهرت أعراض الشيخوخة في صحة كانط إلى أن يفقد البصر إضافة إلى وجود مشاكل أخرى. رفض كانط الإستجابة للمتسولين المعتادين فيما كان سخياً مع المؤسسات الخيرية ثمة أشخاصُ كثيرون إعتمدوا على هبات كانط كل ماجمعه الفيلسوف كان من مجهوده وعمله وقد عاني في شبابه العوز والحاجة لكن لم يقترض أبداً.
ومن المواقف التي لا يمكن تجاهلها إصرار كانط على شكر طبيبه مع أن المرض أنهكه تماماً وأبى أن يجلس قبل زائره قائلا “سأكون منحطاً لا سمح الله لو نسيت الواجبات الإنسانية”. مع أن كانط قد أوصى بتشيع جنازته صباحاً وفي أقل قدر من الضوضاء لكن في يوم تشييعه قد جمع في باحة كنيسة القلعة كبار الشخصيات الدينية والسياسية ناهيك عن كبار الجامعيين ساروا نحو منزل البرفيسور، وحمل من هناك على ضوء المشاعل وتقرع أجراس الكنائس وتبع آلاف الأشخاص وفي الأخير سجي جثمانه في مدفن قبو الأكاديمية.
* ميدل ايست 2020/12/03