عبد المجيد طعام
في الحقيقة لم تكن حياته نعيما ، تجاوز الثلاثين من عمره ، عاطل عن العمل ، يعيش في بيت أبيه ، يأكل من يدي أمه ، وينام وحيدا على فراش لم يتغير منذ أكثر من عشرين عاما ، يقضي جل وقته داخل غرفة ضيقة ، بناها له أبوه فوق السطح، ليتفادى نظراته المعبرة عن أشياء كثيرة مخيفة ومبعثرة ، كل تحركاته اليومية محسوبة ومعروفة ، تسير على إيقاع مؤذن جامع الحي.
كان مهووسا بالفتاوى ، وجد في اليوتوب ما يشفي ظمأه ويعزز إيمانه ، كان يقضي وقتا طويلا وهو يتنقل بين قنوات الشيوخ ، يبحث عما جد في باب الفتاوى ، إلى أن صادف فتوى عصفت بطمأنينته الإيمانية ، أدخلته في دوامة بحث متعب عن جواب لسؤال استبد به فجأة ، هل أنا ابن زنى ؟
كان نوح متأكدا من أن الرجل الذي يشارك أمه نفس السرير ، هو أبوه البيولوجي ، إنه يحمل اسمه ، يتقاطع معه في بعض ملامح وجهه ومشيته،لم يشك أبدا في أن من يعيش معه هو ابوه الحقيقي. فعلا لم ير أبدا أباه يصلي ، وهو الذي تجاوز الستين من عمره ، عاش أبوه بعيدا عن الطقوس التعبدية ، طبعا كان يصوم شهر رمضان ، ويشتري أضحية العيد ، ويذبحها عندما يكون رائق المزاج ، إلا الصلاة ، لم يعرف إليها سبيلا ، حاولت زوجته أن تغرس في نفسه بذرتها ، لكنها فشلت ، كان يقول لها:” لم يستقر بعد الإيمان في قلبي ،لماذا ؟ لا أعرف ” وهو يستعرض بروفايل أبيه ، أحس نوح بالخوف يعتصره ، غاص في يم مضطرب من التساؤلات: ” لماذا لا تصلي يا أبي؟ ماذا تنتظر؟ هل تريد أن تموت كافرا ؟لماذا ؟ … لماذا ؟ “
وقف أمام المرآة يتأمل وجهه الشاحب وشفتيه المرتجفتين ، فإذا بالنبي نوح أب البشرية ومنقذها ،يحل في ذاته شيخا بلحية بيضاء ، يشع منها نور الإيمان ، عبثا حاول أن يخرج من جلد النبي نوح ، لكن الرسالة السماوية كانت أقوى.
منذ أن أدرك جسامة ما تنتظر السماء منه ، أصبح يعيش مأساة وجودية ، يفكر كثيرا في الجرم الذي ارتكبه أبوه ، عندما جنا عليه دون ان يمنح له أي فرصة للاختيار ، لماذا أراد ابي أن أكون ابن زنى ؟ لم يجد جوابا يستقر به إيمانه بعد أن تقاذفته رياح فتاوى شيوخ اليوتوب :”عقد الزوجة على زوج لا يصلي عقد باطل، ولو جامعها فإنه يجامعها بزنا والعياذ بالله ” “أبناء الرجل الذي لا يصلي هم أبناء زنى !!” كلما استرجع الفتوى ينزف ألما ، وكلما حدق في صورة النبي نوح على المرآة تساءل : لماذا اختارني الله لأكرر تجربة نوح في هذا العصر ؟ خرج نوح من غرفته الضيقة ، رفع عينيه نحو السماء وصاح بصوت مكتوم :” يا إلهي ! اصطفيتني لأنقذ البشرية ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين لما أمرتني به سبحانك رب العالمين “
وهو ينظر إلى رسالته السماوية بجدية ومسؤولية ،كان الطوفان يتعاظم داخله ، فكر في ضرورة إعادة توزيع الأدوار ، أضحى الأب في قصة طوفانه كافرا لا ترجى توبته، بينما أشفق على أمه وأخته زوهرة وقرر أن ينجيهما إلى جانب القطة والسلحفاة والدجاجة وكل العصافير التي يربيها .
رغم إحساسه بجسامة المهمة، لم يكن نوح سعيدا بهذه الرسالة السماوية، لأنه رأى نفسه نبيا بدون سفينة ، فكر في البحث عن واحدة يجمع فيها عشيرته وحيواناته ، لكن كل السفن غادرت شواطئنا نحو بلاد الكفر محملة بالهاربين من طوفان الواقع والباحثين عن فرصة حياة هناك .