عبد المجيد طعام / مسارات فكرية
بعد أن تعرفنا في الخطوة الأولى من استدلال كانط على حدود معرفتنا نصل إلى الخطوة الاستدلالية الثانية التي يفتتحها بطرح أسئلته التالية : هل ما أدركه بحواسي هو الواقع الحقيقي ؟ أم هو شيئ آخر انعكس على حواسي ؟ هل العالم الذي أدركه يتطابق بالفعل مع العالم الحقيقي ؟ أم ما أعرفه عن العالم يتطابق فقط مع العالم الذي أدركه أنا ؟ هل ما أراه بعيني وما أدركه بحواسي هو فعلا العالم الحقيقي ؟ هذه الأسئلة أشكالية أرقت فلاسفة على مر تاريخ الفلسفة كما أرقت فلاسفة عصره وهي أسئلة تعكس عن إمكاانية غياب التوازي والتقاطع بين العالم الحقيقي والعالم الذي يتم ادراكه. نشير إلى أن كانط عندما يستعمل الجملة “العالم الذي ندركه” لا يستعملها بمعنى “العالم الذي أراه أنا فقط”، وإنما بمعنى “العالم الذي يدركه الإنسان ، يبدو الأمر جد معقد أليس كذلك مرة أخرى أقول لكم لا تقلقوا أنتم في ورش الفلسفة للجميع ورش يقرب الفلسفة منكم بتبسيط مفاهيمها . ولنبسط الرؤية الكانطية ساطرح عليكم مثالا ولنأخذه من عالم الألوان واستهل المثال بطرح السؤال التالي :، الأشياء التي تبدو لنا زرقاء ونحن ننظر إليها هي هي حقًا زرقاء؟ هل هي زرقاء بالطبيعة أم أعيننا هي التي جعلتنا نراها زرقاء ؟ قد يبدو لكم هذا السؤال سخيفا ، لا تقلقوا ، لآن السؤال بعيد عن السخافة ، خاصة وأننا نعلم اليوم أن هناك الكثير من الأشياء التي ندركها بطريقة معينة ليس لأنها كذلك في الحقيقة، وإنما لأن إدراكنا مبرمج بطريقة معينة فنحن لا نرى الأشعة تحت الحمراء على الرغم من وجودها، ولا نرى الأشعة فوق البنفسجية على الرغم من وجودها، و ماذا يرى المصابون بعمى الألوانles daltoniens؟ يرى معظم المصابين بعمى الألوان الأشياء بوضوح مثل الآخرين، ولكنهم لا يستطيعون التمييز بشكل كامل بين الضوء الأحمر والأخضر والأزرق. وفي بعض الحالات النادرة، لا يمكن للمصابين بعمى الألوان رؤية أي ألوان على الإطلاق فما هي إذن حدود إدراك ومعرفة العالم عند هؤلاء ؟ هل ما يرونه بدون ألوان هو الحقيقة ؟ أم ما نراه نحن بالألوان هو الحقيقة ؟ أين هي الحقيق.
بخلاف المصابين بعمى الألوان ، نحن البشر ندرك ثلاثة مجالات للألوان : الأحمر والأخضر والأزرق؛لماذا ؟ لأن لدينا ثلاثة أنواع من الصبغيات (المخروط) تحدد الألوان الثلاثة التي نسميها أصلية ، حينما نتحدث عن الألوان فإننا نتحدث عن ألوان تمت تصفيتها من خلال أعضائنا المستعشرة وما يقال عن الألوان يقال بكل بساطة عن العالم
لذا، عندما نتحدث عن العالم، فإننا في الواقع نتحدث عن العالم كما ندركه من خلال تصفية، ولا نتحدث عن العالم بالمعنى الحرفي، نتحدث عن ما يظهر لنا من العالم. وهذا هو الفرق بين ما يسمى الواقع الظاهري والواقع الحقيقي؛ فالواقع الظاهري هو الواقع كما ندركه، والواقع الحقيقي هو الواقع بصورة مستقلة عن إدراكنا، إذن كيف يمكننا معرفة شيء لاندركه؟ إنها الإشكالية الجوهرية حسب كانط ، إذ يخبرنا بأننا لا يمكننا قول أي شيء عن العالم خارج ما نستطيع أن ندركه ،وما ندركه يتحقق بحواسنا أولا هي التي ترسل رسائل إلى الدماغ الذي يقوم بتحليلها ليؤسم صورة عن هذا الذينظنه هو العالم الحقيقي وهذا يعتبر حد ثان من حدود معرفتنا ويسميه كانط الحدٌّ الهيكلي.
لتعميق فهمنا لهذا الحد الهيكلي نطرح مثالا آخر وليكن هذه المرة عن تفاحة خضراء،إن سألتكم ما هو لون التفاحة الخضراء؟ ستجيبون بكل بساطة وعفوية تامة : إنها خضراء، نعم إنها خضراء، ولكن هل هي خضراء حقًا؟ عندما ندقق في الأمر نكتشف، أن التفاحة التي تبدو خضراء ليست خضراء، إنها تعكس اللون الأخضر فقط كيف ؟ لأنها مكونة من مكونات كيميائية تتفاعل مع الضوء، التفاحة التي نراها خضراء ليست خضراء ، هي تفاحة تمتص اللون الأحمر والأزرق وتطرح إلى الخارج اللون الأخضر فنراه نحن ، وتسمي هذه العملية القائمة على تركيب الألوان بالطرح، من هنا نخلص إلى أن لون الشيء ليس هو لون هذا الشيء بذاته، بل هو اللون المرتد عن هذا الشيء، وهذا يغير كل شيء، التفاحة الخضراء إذن ليست خضراء على الإطلاق، الأمر غريب أليس كذلك ؟ يقول لنا كانط إن الإدراك ما هو إلا نتيجة لمعالجة الدماغ لمعلومة شبكية، تعتمد بدورها على الحساسية الشبكية. فما أدركه بالفعل هو ما انعكس على عيني وما حلله دماغي فأنا لم أر الشيء نفسه. من هنا نخلص إلى أننا لا ندرق الواقع بذاته ، بل ندرك فقط إدراكنا للواقع… وهذا يستدعي النظر بعين الشك في ما ندركه وهي نفس قناعة كانط التي يعكس منظورًا فلسفيًا يُعرف باسم “الشك” ، منظور صاحب الفلسفة على مر التاريخ ،يرى أن المعرفة البشرية محدودة بحدود إدراكنا ،
إضافة إلى هذا الحد الهيكلي يرى كانط أن اللغة التي نستخدمها أثناء التعبير عما أدركناه تساهم في الحد من إدراكنا للواقع فالكلمات التي نستخدمها لوصف العالم لا تصف العالم وإنما تعكس إدراكنا و فهمنا له، ويمكن أن تكون اللغة مصدرا للخلط والغموض. رغم استحالة وجود فهم كامل وموضوعي للواقع فهذا لا يعني أن المعرفة مستحيلة أو عديمة الفائدة
إن المعرفة التي نحققها تخضع لشروط إدراكنا ، وهذا يعني أن الواقع بذاته لا يمكن أدراكه كما هو ، لأننا أسرى حواسنا، وأسرى اللغة التي نفكر بها. لا يمكننا الإنفلات من هذين القيدين ، لغتنا نحن المسلمين العرب التي نستعملها لوصف معرفتنا للعالم تختلف عن لغة اليابانيين مثلا فمن الطبيعي أن نج اختلافا في إدراك العالم بن الحضارتين المختلفتين ، من هنا يمكن القول أن ما ندركه ليس هوالواقع بذاته نتيجة تدخل مجموعة من العوامل منها الحواس والدماغ واللغة الموظفة ويضيف كانط إلى هذه العوامل عاملين آخرين يتدخلان ليؤثرا تأثيرا كبيبرا على إدراكنا للعالم وهما المكان والزمان .
يرى كانط أن المكان والزمان هما من الأشكال الأولية للإدراك الحسي . لا نستطيع أن ندرك أي شيء في غيابهما ، لا نستطيع أن نعرف أي شيء، خارج المكان أو الزمان. المكان هو مجال الأجسام الخارجية، والأجسام الفيزيائية مثل الهواتف الذكية والأقلام وكل ما له حيز، من دون المكان، لا يمكن أن يوجد أي شيء. أما الزمان، فيمثل مجال الأجسام الداخلية، والحالات النفسية. والحالة النفسية تتميز بمدتها، وبدون البعد الزمني، لا يمكن أن يوجد أي شعور داخلي.
يعد مشروع كانط الفلسفي مبتكرًا بشكل كبير، على الرغم من انتماء صاحبه للمسيحية البروتيستانية وكغيره من الخائضين في مجال البحث عن الحقيقة والإدراك المتشبعين بالفكر الديني خاض في إشكالية إثبات وجود الله ما جعله يدخل في صراع مع الكثير من المؤمنين والفلاسفة وعلى رأسهم ديكارت ، فما هو موقف كانط من قضية إثبات وجود الله ؟ وفي ماذا اختلف مع ديكارت ؟
نقف عند هذا الحد على أساس أن نجيب عن هذبن السؤالين في الحلقة الثالثة من قراءتنا في نقد العقل الخالص لكانط