* العرض بقلم: محمود سلامة
صدر كتاب “الأفكار الثورية لكارل ماركس” لأول في عام 1983، بعد مائة عام من وفاة المفكر والفيلسوف الألماني كارل ماركس (تُوفي عام 1883). في هذا الكتاب حاول أليكس كالينيكوس، المنظِّر الماركسي بريطاني والقيادي بحزب العمال الاشتراكي البريطاني، تقديم أبرز أفكار ماركس وكتابه الأشهر “رأس المال”، محاولًا تبسيط أفكار ماركس ومسيرته وعرض السياقات التاريخية والاجتماعية التي ظهرت فيها مثل هذه الأفكار، بالإضافة إلى التأثيرات المختلفة التي تعرض لها ماركس.
خلال هذا العرض، يربط كالينيكوس هذه الأفكار بأحداث وبيانات معاصرة، بالإضافة إلى رده على أبرز الانتقادات التي وُجِّهَت لأفكار ماركس. من هنا تنبع أهمية الكتاب في كونه يتجاوز مجرد العرض المبسط لأفكار ماركس إلى عرض السياقات التي نشأت فيها هذه الأفكار وتناول مختلف أوجه النقد الذي تعرضت له هذه الأفكار. يتناول العرض أفكار ماركس من قراءة تروتسكية مركزها الاشتراكية من أسفل والتحرر الذاتي للطبقة العاملة.
“إن مهمة المنظرين ليست في إرساء القانون للعمال بل في المقابل أن يفهموا ما يكافح هؤلاء العمال من أجله، وأن يوضحوا لهم كيف يحرزونه”
يبدأ الكتاب من بدايات القرن الثامن عشر في ألمانيا، العصر الذهبي للفلسفة الألمانية، الذي كانت فيه ألمانيا وكأنما تعوض عجزها سياسيًا واقتصاديًا عن طريق الفلسفة. في هذه الظروف نشأ ماركس في أسرة تنتمي للطبقة الوسطى، وتلقى تعليمًا ليبراليًا كان ليهيئه للعمل بالسلك القضائي لولا أن تركه وعكف على دراسة الفلسفة. هناك تعرَّف ماركس على أعمال المفكر الألماني الأبرز هيجل (تُوفي 1831)، وتحديدًا قراءات اليساريين الشبان لهيجل. منها انتقل ماركس للعمل بالصحافة السياسية التي مثلت نقطة مهمة في تحوله، إذ كان حتى تلك اللحظة متأثرًا بآراء هيجل عن الدولة ككيان فوق-طبقي.
وعبر عمله بالصحافة السياسية، بدأت أفكار ماركس تتجذَّر، وبدأ يقترب أكثر من الطبقة العاملة، وانبهر بالطبقة العاملة الفرنسية. هنا بدأت جذور مادية ماركس التاريخية بالظهور خاصة بعد دراساته الجادة لأعمال آدم سميث وديفيد ريكاردو. في فرنسا، التقى أيضًا برفيق حياته فريدريك إنجلز (تُوفي 1895) وأسسا معًا لجنة المراسلة الشيوعية، وانخرطا في نقد الحركات الاشتراكية في ذلك الوقت، وكتبا معًا العمل الأشهر “البيان الشيوعي”.
“شبح يخيم على أوروبا – شبح الشيوعية”
كانت أوروبا في ذلك الوقت تشتعل بالانتفاضات في فرنسا وبروسيا والنمسا، وهنا بدأت الحكومات المختلفة تدرك خطورة ماركس ورفاقه. عاد ماركس إلى الصحافة السياسية وتفرغ للدراسات الاقتصادية نحو عمله الأهم “رأس المال”.
يستكمل الفصل الثاني الحديث عن الأفكار الاشتراكية المختلفة التي وُجِدَت قبل ماركس، فلم يكن ماركس أول من تحدث عن الشيوعية. غلب الطابع المثالي التنويري على الأفكار الاشتراكية في ذلك العصر، منطلقًا من إيمانٍ عميق بقوة العقل. آمن هؤلاء الشيوعيون الأوائل بأن التغيير سينتج من معركةٍ بين الأفكار، وأن السبيل لذلك هو عبر تنوير الجماهير. هذه النخبوية الصارخة كانت تنظر لجماهير العمال والفلاحين باعتبارهم شهود عيان لا حيلة لهم في عملية تحريرهم؛ مفعولًا بهم وليسوا فاعلين. ولهذا انتهى بهم الحال إلى تبني خطاب عابر للطبقات (استهدف الطبقات الحاكمة بالأخص)، دون إدراك حقيقي لطبيعة الصراع الطبقي ومركزية فاعلية الطبقة العاملة في هذا الصراع. وهنا كان يكمن قصورهم في التنظير لكيفية الانتقال للمجتمع الشيوعي المأمول. وهنا أيضًا كان الإسهام الأبرز لماركس بتقديمه تحليل مادي للرأسمالية مبني على المادية الجدلية وكيفية تجاوزها.
اعتمد تحليل ماركس على عنصرين رئيسيين؛ هما الفلسفة الكلاسيكية الألمانية والاقتصاد السياسي البريطاني. في الأولى تجلَّى الديالكتيك، هذا الأسلوب الفلسفي الجديد الذي طوَّره هيجل، كطريقة ثورية للنظر إلى العالم وتناقضاته، وباعتبار التناقض يقع في جذر كل ظاهرة، وأن الأصل في الأشياء هو التغيير والحركة. ومن بعده جاء فيورباخ (تُوفي 1872)، الذي وضع اللب المادي الذي يقع خلف الغطاء الروحاني الهيجلي في المركز. مثَّلَ نقد فيورباخ لهيجل نقطة الانطلاق الرئيسية لماركس الذي صاغ موقفه بأن الفكر لا يخلق العالم بل يعكسه، وأن الوجود الاجتماعي للبشر هو ما يحدد وعيهم.
أما فيما يخص الاقتصاد السياسي البريطاني، فقد انطلق ماركس من نقده لآدم سميث وتوماس مالتوس وديفيد ريكاردو، الذين رأوا في اقتصاد السوق الرأسمالي آليةً “طبيعية”، ومنه تغدو قوانين السوق فوق-تاريخية، بعكس الإقطاع الذي رأوا فيه آلية مصطنعة. رغم ذلك، استفاد ماركس من تحليل ريكاردو بأن قيمة السلع تُستَمَد من العمل الضروري لإنتاجها. ينتج عن هذا التحليل تضارب مصالح العمال والرأسماليين، حيث لا زيادة ممكنة في قيمة العمل دون نقصان في الأرباح، أي تناسب عكسي بين الأجور والأرباح. لكن هذه التحليلات كانت لا تزال ترتكز على أن هناك طبيعة بشرية ثابتة وأن انقسام المجتمع إلى طبقات هو أمر حتمي وطبيعي.
“لا ينطلق منهجي التحليلي من الإنسان بل من الفترات التي يعيشها المجتمع والتي يقدمها الاقتصاد”
يستعرض كالينيكوس في الفصول التالية من الكتاب الملامح الرئيسية لأفكار ماركس، وعلى رأسها الطبيعة البشرية، حيث الحجة الأقدم ضد الاشتراكية أنها منافية للطبيعة البشرية. تنطلق هذه الأفكار من رؤية فوق-تاريخية للطبيعة البشرية باعتبارها أمر حتمي وثابت (منطلقًا من ثوابت دينية مسيحية) ليبرر وجود المجتمع الطبقي والرأسمالية. لم ينفِ ماركس وجود سمات مشتركة بين المجتمعات الإنسانية المختلفة، ولكن ما قرره هو أنه لا يمكن فهم كيف تتغير المجتمعات دون فهم مجموع العلاقات الاجتماعية التي تحكمهم. ومن هنا كان العمل باعتباره -طبقًا لماركس- هو جوهر الإنسان ونشاطه المميز في تفاعله مع الطبيعة وتغييرها. ومنه فالإنسان إنسان لأنه يعمل وهو أيضًا كائن سياسي ولا تُحدَّد شخصيته إلا في أحضان المجتمع. فإذا كان العمل والإنتاج هو أهم نشاط بشري، فإن فهم طريقة تنظيم هذا الإنتاج هو بداية تحليل هذا المجتمع، أو ما أسماه ماركس “علاقات الإنتاج الاجتماعية”.
خالف ماركس في هذا التحليل هيجل وفيورباخ في تفسيرهم للاغتراب الذي أعادوه إلى كونه ظاهرةً فكرية. أما ماركس، فقد اعتبره عمليةً مادية واجتماعية، ففي ظل المجتمع الرأسمالي يُرغَم العامل على بيع قوة عمله، ولا يتمتع بأي سيطرة على المنتجات ولا على عمله الذي هو جوهر وجوده الإنساني، وهنا يغترب الإنسان عن طبيعته البشرية. تؤدي هذه الحالة من العمل المغترب إلى علاقةٍ يسيطر فيها من لا يعمل على عمل غيره ويجني منه أرباحًا. من هذا المنطلق بدأ تشخيص ماركس لمَواطن خلل المجتمع الرأسمالي عبر منظار الصراع الطبقي بين العمال والرأسماليين.
لكن ما فارَقَ فيه ماركس الاشتراكيين الطوباويين هو تحليله للدور الحاسم الذي يلعبه الصراع الطبقي في الإطاحة بالرأسمالية. فمفهوم ماركس للطبقة يختلف عن التعريف الشائع لدى متخصصي علم الاجتماع، فالصراع الطبقي لدى ماركس يولَد مع الطبقات نفسها، التي تنشأ عبر الصراع وتتصرف كلُّ منها كطبقة حين تدرك مصالحها المتضاربة مع مصالح الطبقات الأخرى.
التناقض عند ماركس لا يُحَل إذًا عبر تصالح بين الأضداد تذوب فيه العناصر المتناقضة، بل عن طريق الصراع وانتصار أحد هذه الأضداد على الاخر. ما خالف فيه ماركس الطوباويين كان فهمه المادي لطبيعة هذه التناقض لا باعتباره تناقضًا بين الواقع والفكر، بل داخل هذا الواقع نفسه، وهنا يرصد الديالكتيك إمكانيات التغيير وتجاوز الوضع القائم. اختلف ماركس عبر هذه الرؤية عن الاشتراكيين الطوباويين الذين كانوا ينظرون إلى الطبقة العاملة باعتبارها مجرد ضحية للرأسمالية، وكطبقة عاجزة عن التغيير، مما أسقط الطوباويين في فخ المثالية. رأى ماركس أن هذا التحليل خاطئ في أساسه، إذ يغفل دور النضال الاجتماعي في تثوير الوعي، فالعمال ليسوا فقط نتاجًا للمجتمع، فتناقضات الرأسمالية تدفع العمال للنضال وهنا تتغير الطبقة العاملة وتتحرك كطبقة واعية بذاتها ومصالحها المشتركة والمتضاربة مع الرأسماليين. إن جوهر فكر ماركس يكمن في التحرر الذاتي للطبقة العاملة.
يستكمل كالينيكوس استعراض أفكار ماركس خصوصًا في تحليل التاريخ عبر النظر في الإنتاج المادي والعلاقات التي يولدها، والقراءة التاريخية عبر الديالكتيك. حارب ماركس الحتميات التاريخية التي تنزع عن البشر (الطبقة العاملة تحديدًا) فاعليتها وتفاعلها مع واقعها وقدرتها على التغيير، فـ”تاريخ كل مجتمع وجد حتى اليوم ما هو إلى تاريخ لصراع الطبقات”. انتقل الكاتب بعد ذلك إلى تفسير ماركس لطبيعة الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، حيث لا يعتمد الاستغلال على الإخضاع البدني، بل على الضغوط الاقتصادية التي لا يمتلك العمال فيها وسائل الإنتاج. فـ”الحرية” الليبرالية لها ضرورة أيديولوجية، بمعناها المزدوج، فالعمال صاروا أحرارًا من العبودية من ناحية، وهم أيضًا أحرار من أي ملكية لوسائل الإنتاج. أما الأزمات فهي تنشأ من التناقضات الداخلية لنمط الإنتاج السائد، وهذه الأزمات تحمل في داخلها بذرة إنتاج أنماط جديدة. قدَّم كالينيكوس في الفصل التالي تلخصيًا مبسطًا لأبرز مفاهيم رأس المال كفائض القيمة ومصدرية الربحية، ورأس المال الثابت والمتغير، وغير ذلك. استعان كالينيكوس بأمثلةٍ مبسطة لتوضيح هذه الأفكار، مما يساعد على تقريب هذه المفاهيم للقارئ ويساعد بشكل كبير في قراءة العمل الأبرز لماركس -رأس المال.
ينتقل كالينيكوس في الفصلين الأخيرين للحديث عن اليسار وسلطة العمال، أو عن الرؤية الماركسية للانتقال إلى الاشتراكية. جادل ماركس ويساريون آخرون بضرورة بناء حزب عمالي يقود النضال الطبقي ضد الرأسمالية، وهنا يُطرح السؤال عن الدور الذي يجب أن يلعبه اليسار. حارب ماركس النخبوية أو أن يحل الشيوعيون محل العمال في الصراع الطبقي أو أن يستبقوا، كأقليةٍ مستنيرة، التطور الثوري ويحاولوا الاستيلاء على السلطة. على العكس، يتعيَّن على الشيوعيين الانخراط في مهمات “التنظيم العام للبروليتاريا” وتنويرها النظري، فالشيوعيون لا يشكلون حزبًا منفصلًا ولا ينبغي أن تكون لهم مصالح منفصلة عن مجموع البروليتاريا.
يختتم كالينيكوس كتابه بعرض أبرز الانتقادات التي وُجِّهَت لفكر ماركس فيما يتعلق بمدى صلاحية التحليل الماركسي للواقع الحالي، خصوصًا مع التناقضات التي انتهجتها دول الرفاه في أوروبا.
بشكلٍ عام، يمثِّل هذا الكتاب مدخلًا متميزًا لأفكار ماركس وتعليقًا بالغ الأهمية والإفادة لفهم السياقات التي أنتجت هذه الأفكار.
* صدرت ترجمة الكتاب عن دار “المرايا للإنتاج الثقافي”، تأليف أليكس كالينيكوس، مارس 2021.