عبد المجيد طعام
وأنا على متن القطار ، كان لابد وأن اقتحم صمت ولامبالاة من سيجمعني بهم السفر، طيلة المسافة الطويلة ، المتعبة ، من وجدة إلى الدار البيضاء .
في الحقيقة لم نشذ عن قواعدنا في النقاش ، نحن نجمع على التشتت والقفز من موضوع لأخر ، ونعشق كثيرا عدم الانضباط .
داخل المقصورة ، كنا نتبادل وجهات نظر حول مواضيع كثيرة ، كنا نتظاهر بالاهتمام ونحاول بمشقة كبيرة أن نظهر بأننا معنيين بقضايانا المصيرية كالتعليم والبطالة والصحة والتخلف .
كما هي العادة أيضا كان الغرب حاضرا كما كان الشرق كذلك ، لا أعرف لماذا مازلنا نستحضر في أي نقاش ثنائية الشرق/ الغرب ، ثنائية عمرت كثيرا ، فرضت نفسها علينا مع بداية حملة نابليون على مصر سنة 1798 ، لكن النخبة هي التي كانت تحتكر النقاش ، كانت تديره في الصالونات الراقية بعيدا عن هموم الشعب ومشاكلهم ، مع مرور الزمن تغير الأمر ، اليوم العامة هي التي أصبحت تطرح ما كان يطرحه الطهطاوي والشيخ محمد عبده ، نقاش عمر أكثر من ثلاثة قرون ، لم يؤد إلى أي نتيجة سوى أنه نزل من البرج العاجي ، لم يبق حكرا على النخبة ، أصبحت تتداوله العامة بنفس رؤية المفكرين الذي لم يكن يشق لهم غبار في عصر ما يسمى النهضة ، كيف نفسر هذا التحول ؟ هل تقدمنا ونحن لا نشعر ؟ .
وانا أتكلم عن النهضة والثنائية اللعينة والنخبة والعامة كان رفقائي في السفر ينظرون إلي تارة باهتمام مصطنع ، وتارة يخفون لامبالاتهم وسط تجاعيد تصنعها ابتساماتهم على وجوههم ، إلى أن عم صمت مزعج أكثر من صوت محرك القطار ، ثم نظر إلي أحد رفقاء السفر وقال لي بنبرة يقينية “: لن نتغير إلا إذا آمن المجتمع بثقافة الاختلاف ، ومنح للمواطنين حق ممارسته بكل حرية ” أنهى تدخله ، واستمر يحدق في وجهي ينتظر ما سأضيفه ، فقلت له :” جميل ما قلت ، فعلا نحن نحتاج إلى ثقافة الاختلاف ، لكن هذه الثقافة توجب وجود فكرين مختلفين على الأقل ، يفصحان عن نفسيهما بكل حرية وجرأة ،لكن للأسف نحن لا نؤمن أصلا بالفكر ،نؤمن فقط بالإجماع الذي لا يمثل إلا سلطة الحاكم ، سلطة الحاكم تأخذ مشروعيتها مما يسمى الإجماع وهو مفهوم شرعي اختلط بالسياسة ، سأطرح عليك سؤالا وأريد إجابة صريحة ، ونحن في شهر الصيام ، هل ستقبل أن تتعايش مع المختلف عنك ، أقصد الشخص الذي يرفض أن يغير نمط عيشه خلال شهر كامل ، شخص له قناعات حياتية وفكرية مختلفة عما يجمع عليه المجتمع ، تعود مثلا أن يستيقظ صباحا ،يأخذ فطوره بالمقهى ، ثم يضع سيجارة بين شفتيه ، يشعلها ، يأخذ نفسا منها وهو يقرأ جريدته الصباحية .. هناك الكثير من الناس يمارسون هذا الطقس اليومي ، بينهم أشخاص يرفضون أن يحرموا منه خلال شهر كامل .. إنها حياتهم ولهم كامل الحرية في ممارسة اختياراتهم ، كما للآخرين الحرية الكاملة في أن يصوموا ويصلوا التراويح ، أو أن يرابطوا بالمساجد يؤدون صلواتهم ونوافلهم … هل ستقبل أن تتعايش مع من يريد أن يحافظ على نظام حياة يؤمن به ، وفي نفس الوقت لا يمس نظام حياتك ؟ “
لم ينظر إلي نظر إلى سقف المقصورة وكأنه يبحث عن السماء ، ليكون واثقا من أن الله يسمعه ثم قال لي ” أنت ذهبت بعيدا في فهم ثقافة الاختلاف ! الاختلاف الذي أقصده هو ما تعلق بأمور بسيطة ثانوية ، كأن نختلف في تقييم المدرب الوطني لكرة القدم ، أو على أبعد تقدير قد نختلف حول مدى الجدوى من الصعود إلى القمر …. هناك مواضيع كثيرة لنا الحق في أن نختلف حولها ، اما الصيام ، لا يمكن أن نختلف حوله ، إنه أمر إلهي ، إذا اختلفنا حوله ضاعت هويتنا ، وهذا ما يريده الغرب ، انا لا يمكنني أن أتعايش مع الشخص الذي لا يصوم ، هذا امر لا نقاش فيه ، الصيام يحقق لنا إجماعا سماويا يحمينا من الاندثار “
أجمع رفقائي في السفر على أنني مخطئ ومهلوس، بينما الآخر رزين وحكيم ، قررت أن أغادر القطار في محطة تازة ، كنا على مشارفها ، قبل أن أغادر طرحت أسئلة على ما يشبه الفراغ :”من أين سيأتينا الاختلاف ؟ هل سيأتينا من هذا الفراغ؟ أم من الإجماع الذي صنع منا مجرد قطيع ؟ “