عبد المجيد طعام / مسارات فكرية
سنتحدث عن سقراط ، لكننا سنغير عادتنا لأننا لن نتحدث مباشرة عن فلسفته وإنما سنهتم بحدث ، حدث ميز تاريخ الفلسفة ، يمكن أن نقول عنه أنه مثل نوعا من الحدث التأسيسي للفكر الفلسفي ،هذا الحدث المهم والخطير في نفس الوقت هو محاكمة سقراط التي انتهت بإعدامه .
يعرف الكثير من المهتمين وغيرهم أن سقراط خضع لمحاكمة انتهت بالحُكم بإعدامه ، حكم لم يبق معلق التنفيذ بل نفذ فعلا ، نفذ ضد فيلسوف يعد من أعظم الفلاسفة على مر العصور .
كلنا نعرف هذه النهاية المأساوية التي آل إليها سقراط ، لكن الكثير منا لا يعرف بما اتُهم به سقراط ليستحق هذا الإعدام والكثير منا لا يعرف ما قاله خلال أطوار المحاكمة والكثير منا لا يعرف كذلك كيف دافع سقراط عن نفسه .
أن الإجابة عن هذه الأسئلة جد مهم لأن وراء دفاع سقراط على نفسه لن نكتشف فقط شخصا يدافع من أجل أن يبقى حيا ، لن نكتشف فقط شخصا يرد التهم ويدحضها وإنما نكتشف طبيعة تفكير سقراط مزاجه وعقليته كما سنكتشف تجليات فلسفة سقراط ، كل الملاحظات التي أدلى بها سقراط أثناء محاكمته تسمح لنا بفهم تفكيره العميق بشكل أفضل أكثر ما يسمح به أي نص من نصوصه .
في الحقيقة الأمر صعب ، أن نحلل نصا من نصوص سقراط دعونا نواجه الحقيقة ، سقراط لم يكتب نصًا واحدًا أبدًا ، كانت كل وقفاته ورؤاه الفلسفية شفهية إنه يعتبر رائد التعليم الشفهي ، لم يكن يكتب ما يعلم الناس بل أفلاطون هو من كتب دروسه وخلدها لتصل إلينا .كان سقراط نفسه يقول أنه لم يترك دروسا لأنه لم يكن لديه تلاميذ ،كان لديه محاورون وشركاء المناقشة . رغم تأكيده على عدم إعطائه دروسا لتلاميذ معينين إلا أن التاريخ يؤكد غير ذلك ،التاريخ يؤكد أنه كان لديه بالفعل تلاميذ أو بأصح العبارة كان لديه أتباع ، كان له تأثير فكري كبير عليهم.لقد ذكرنا منذ لحظة أفلاطون الذي يعد من أكبر تلاميذه والحافظ لتراثه الفلسفي ونقله إلى البشرية ، وكان لسقراط تلاميذ غير أفلاطون نذكر منهم أنطستينوس الذي عاش بين 450 ـ 366ق.م و أنطستينوس هذا تعرف في أثينا على الكثير من سفسطائيين من أمثال بروتاغوراس وهيبياس وبروديكوس. ثم عرف سقراط وأخذ عنه عناصر فلسفية وشخصية أنطستينوس تستوقف الناظر فيها ، فهي في بعض جوانبها أقرب إلى شخصية تولستوي. كان أنطستينوس يعلّم في ملعب رياضي (ملعب هرقل) الذي كان في نفس الوقت مجمعاً للغرباء والفقراء والمتشردين . وهذه دلالة على قرب الفيلسوف والفلسفة من العامة ولم تكن خاصة بالنخبة
ومن تلاميذ سقراط نذكر أيضا زينوفون أو كسينوفون عاش بين 430–354 قبل الميلاد) هو فيلسوف يوناني قديم ومؤرخ وجندي ومرتزق وكان أحد تلاميذ سقراط. يعتبر زينوفون مصدرا مهما من المصادر التي نعرف من خلالها فلسفة سقراط مثل زميله أفلاطون (427-347 قبل الميلاد)،.
رغم وجود أسماء وازنة دارت في فلك سقراط إلا أننا يمكن أن نقول لم يكن له تلاميذ بالمعنى الدقيق للتلاميذ فهو لم يؤسس مدرسة فلسفية وكان يعارض ذلك لأنه اعتبر الفلسفة شأنا شخصيا أو خاصا ، أي أنه لم يعتبر الفلسفة شيئًا يمكن أن يتلقاه الفرد من خارج ذاته ، الفلسفة في نظره هي شأن خاص ينبع من الداخل ، من داخل الفرد.
كانت علاقة سقراط مع محاوريه أو شركاء النقاش خاصة وغريبة نظر إليهم كمالكين للحقيقة ، لم يستطيعوا أن يظهرها أو لم يفصحوا عنها وهنا يتدخل الفيلسوف ويبرز دوره المهم سيكون عليه مساعدتهم على اكتشاف الحقيقة الكامنة في ذواتهم ، عليه ان يساعدهم على اكتشاف الحقيقة بأنفسهم ليحقق هذا الهدف اعتمد سقراط على المنهج التوليدي. طبعا أصبح المنهج التوليدي هو المعرف المنهجي الفلسفي لسقراط و المقصود بالمنهج التوليدي السقراطي : الوصول إلى الوضوح التام الذاتي عند الأطراف المتحاورة ، والوضوح الذاتي يعني معرفة الشخص لنفسه حق المعرفة ( إعرف نفسك بنفسك) والحكمة منه هي لتأكيد أهمية الشخص في الوصول إلى الحقيقة .
اعتماد سقراط على هذا المنهج التوليدي جعله يتميزعلى جميع الفلاسفة ، لأن هذا المنهج جعله يعيش تجربة فلسفية ومغامرة معرفية فريدة ، أصبح الفيلسوف يواجه الجمهور مباشرة ويتواصل معهم عندما يجري نقاشا أو حوارا معهم
هكذا كان يفكر سقراط وهكذا كان يرى الفلسفة وهكذا أنزل الفلسفة إلى المجتمع وحفز العامة على استعمال العقل والمساهمة الذاتية في تنمية قدراتهم وإدراكهم كان يقول مثلا في الحقيقة إننا لا نساعد شخصًا ما على تنمية روحه من عندما نقوم نحن بكل شيء يخصه بدله ، لآ يمكن أن تتحقق تنمية الروح إذا منحنا الشخص أجوبة جاهزة عن أشياء تخصه هو ، بل سنقدم للشخص مساعدة كبيرة عندما نطرح عليه الأسئلة الصحيحة ، الأسئلة التي ستدفعه إلى إعادة النظر في معتقداته وهو يقوم بصياغة أجوبته الخاصة لهذا كان سقراط يرى أن العدو الحقيقي للمعرفة ليس الجهل ، وإنما وهم المعرفة لذا كان يرى أنه من الصعب أن نطرد المعتقدات الخاطئة من عقولنا لذلك إذا لم نمنح للفرد الحرية في صياغة أجوبة جديدة من خلال مواجهته بالأسئلة الصحيحة .
لم يكن سقراط معلمًا ، ولم يكن مديرًا للضمير ، بل كان رجلاً يدعو إلى أن يتولى كل فرد مسؤولية تطوره الروحي والفلسفي ، من أجل الوصول إلى الحقيقة. وهذا هو الهدف من اعتماده على المنهج التوليدي الذي يستدعي استعمال العقل .
حسب رؤية سقراط الفلسفية العقل يستدعي العقلانية التي التي يجب أن تحكم العالم فالمعلم الجيد أو المدرب الجيد في الفلسفة ليس هو الذي يعطي الدروس ، إنه الشخص الذي يطرح الأسئلة الصحيحة ، والأسئلة الصحيحة هي الأسئلة التي لا يمكن للمرء أن يجيب عنها بشكل خاطئ دون أن يدرك ذلك بالنسبة لسقراط ، يمكن لأي فرد وبما أنه يملك عقلا الوصول إلى الحقيقة و المعرفة حسب سقراط دائما هي استعادة الوعي لما يعرفه العقل ، والوعي هو إدراك للحقيقة بفضلد السؤال الذي يعد أفضل أداة للوصول إلى المعرفة .
طبعا حاولنا في هذا الحيز أن نعرف بعض الخطوط العريضة لفلسفة سقراط واعتبرنا ذلك مدخلا ضروريا للوصول إلى الحديث عن حدث مقاضاته والحكم عليه بالموت .
لم يكن من الممكن أن نعرف تفاصيل هذا الحدث ببعده الفلسفي لم لم ينقله أفلاطون في نصين :
النص الأول حمل عنوان l’Apologie de Socrate اعترافات سقراط في هذا النص سيتكلم أفلاطون بلسان سقراط وسيضعنا في خضم محاكمة غريبة تلك التي ستجر سقراط إلى فقدان حياته حينما تحكم عليه المحكمة بالإعدام ولنقترب من أجواء المحاكمة أقرأ عيكم جزء من النص الأول :” أيّ انطباع تركه فيكم الذين اتهموني، يا أهل أثينا، لا أدري. فيما يخصني، كدت أنسى، وأنا أسمعهم، من أنا، لفرط ما كان كلامهم مغريا. ومع ذلك، وهذا ما أستطيع تأكيده، لم يقولوا ولو كلمة واحدة صادقة. ولكن ما أدهشني الأكثر فيما جاء في هذا المقدار الكبير من الأكاذيب، هو قولهم أنّ عليكم أن تحذروا مني حتى لا أغالطكم لأنني بارع في الكلام، وأنهم لم يستحوا من التكذيب الذي سأقدّمه لهم الآن. فقد بدا لي هذا الموقف من جهتهم غاية في الحمق، إلا إذا كانوا يعتبرون بارعا في الكلام من يقول الحقيقة. إن كان هذا ما يقصدون، فأنا أعترف بأنني خطيب، ولكن ليس على شاكلتهم. ومهما يكن من أمر، فأنا أكرّر لكم أنّهم لم يقولوا أيّ شيء، أو تقريبا أيّ شيء صحيحا. أمّا أنا في مقابل ذلك، سأقول لكم كلّ الحقيقة.”
وجد هيئة المحلفين أن سقراط كان مذنبا ، وطلبت منه اقتراح عقوبة. فاقترح في البداية مازحا أن تنظم الدولة وجبة كبيرة تكريما له ، وتنتهي المحاكمة بالحكم عليه بدفع غرامة. رفضت هيئة المحلفين اقتراحه وحكمت عليه بالإعدام: قبل سقراط الحكم بثبات. ويشير للجميع أنه لا أحد يعرف ما يحدث بعد الموت ، لذلك من الحماقة أن يخاف المرء مما لا يعرفه. كما حذر المحلفين الذين صوتوا ضده ، قائلاً إنهم يضرون أنفسهم أكثر مما أضروا به لأنهم سيفقدون دعم الشباب.
النص الثاني الذي كتبه أفلاطون عن محاكمة سقراط يحمل عنوان LE CRITON النص عبارة عن حوار بين سقراط وكريتو صديق الزنزانة وقد دار بينهما حوار حينما كان ينتظر سقراط تنفيذ حكم الإعدام عليه دار الحوار حول العدالة والظلم والطريقة الأنسب للتعامل مع الظلم. يرى سقراط بأن الظلم لا يمكن ولا ينبغي محاربته بالظلم ، وبالتالي يرفض عرض كريتو لمساعدته على الهروب من السجن.. يمكن أن نقول بأن الحوار بينهما قدم شكلاً بدائيًا لنظرية العقد الاجتماعي التي ستظهر مع جان جاك روسو
أعلن سقراط في نص اعترافات سقراط عما يلي : ” فأنا أكرّر لكم أنّهم لم يقولوا أيّ شيء، أو تقريبا أيّ شيء صحيحا. أمّا أنا في مقابل ذلك، سأقول لكم كلّ الحقيقة”
أين هي الحقيقة ؟ هل ما قاله خصومه هو الحقيقة ؟ أم ما قاله سقراط هو الحقيقة ؟ إذن محاكمة سقراط ستكون عبارة عن مناظرة فلسفية حول وظيفة الفلسفة ودور الفيلسوف وحول الحقيقة كإشكالية فلسفية وهذا ما سنتحد عنه في الحلقة القادمة من السلسلة المخصصة لمحاكمة سقراط .