د. رسول محمد رسول
الفيلسوف الأكاديمي.. من التطابق المعرفي إلى أنطولوجيا التوثُّب
يحدوني السؤال دائماً عن الكيفية التي يُمكن فيها أن تصبح المعرفة الفلسفية أكثر من مجرَّد تخصُّص أكاديمي مختبئ داخل أسوار الجامعات، يترهَّطها، هذا التخصص، معتكفاً بين أروقتها؟ بل كذلك الكيفية التي يصبح فيها الفلاسفة أو أصحاب المعرفة الفلسفية أو المتفلسفة أو أهل الفلسفة أو (مؤثِرو الحكمة)، مجرَّد معلِّمي فلسفة يقبعون داخل أسوار الجامعة دون غيرها؟
في خضم هكذا أسئلة، لا بد من دعوة حاثة على تفعيل دور الأستاذ الجامعي أو معلِّم الحكمة الجامعي (Academic) في راهن عصرنا الذي تشي دمويته بما لا يُحمد عقباه في ظلِّ بربرية الغريزة البشرية والعقل الأداتي التدميري نافرة الحضور الذي يتسلَّح به رهط رعاعي عنيد بات يقمع الإنسان ويقتله ذبحاً وتهشيماً لجثته وحرقاً لبقاياها على مرأى العالم الذي صار قرية مصغَّرة يجتمع إليها همس البشر مسموعاً في آن زماني واحد تتناقله صور لاهوت البشاعة بين أطراف المعمورة من دون حرج ولا إبطاء أو موانع.
الراهن الدَّموي
لا شك أن الراهن الدَّموي يمثل حدثاً واستثناء، وكلاهما نافر الحضور، ويمثل أيضاً ظاهرة ظلامية رعاعية تخريبية لا تمل من تغييب الإنسان، وهو بنيان الخالق في الأرض، الأمر الذي يتطلَّب الإصغاء الحقيقي إلى دور الفيلسوف أو صاحب المعرفة الفلسفية أو مؤثِر الحكمة أو المتفلسِف، المتخصِّص فيها وبها تفكيراً وتداولاً بعقله الفلسفي الرشيد. الفيلسوف هو الكائن المعرفي الذي لا يُمكن النَّظر إليه بوصفه المتحذلق (Pedant)، ربما، بمفاهيم فلسفية ما على نحو دعائي تبطُّري؛ بل هو الشَّخص المعرفي الإنسي الذي يُفلسف الوعي بوصفه مَلَكَة الإنسان رهيفة الوجود الملكة الأكثر افتتاناً بصوت المعرفة الحقَّة، وكذلك بصوت الحرية والعدالة والسلام الإنساني والبيئي والمجتمعي والكوني حتى يحوز منزلة الفيلسوف صاحب العقل الإصلاحي التعميري مقابل رهط تدميري همجي تدفعه غرائزه المتوحِّشة إلى قتل البشر في كل صوره البشعة عبر استخدام طاقة العقل التدميري السَّلبية، وإنزال فداحة عدمية صاخبة بالبشر لا يستحقها الإنسان الذي قطع أشواطاً من التقدُّم المعرفي والعلمي والجمالي والروحي والتعميري والإصلاحي لتهذيب بشاعة الوجود البشري غير الأصيل تلك التي يمثلها الشر القميء الرازح هنا وهنا على غير هدى عقلاني.
المؤسسة الفلسفية
يعاني الحراك الفلسفي المعاصر في العراق، مثلاً، من هيمنة الاشتغالات الفلسفية المتطابقة مع كينونتها المعرفية على حساب علاقتها المعرفية المتوثبة مع حراك الواقعي اليومي في العالَم، وهو بذلك لا يكرِّس تاريخانيته الأصيلة، إنما انسداد أفقها، ونسيان هذا الحراك للتعامل الحيوي الخلاق مع الزمان، ومع صيرورة الحال البشري بكُل صوره اليومية التي باتت سريعة الأثر في حضورها الكارثي.
كان الحراك الفلسفي المعاصر في العراق وما زال أمره طبيعياً في ظلِّ حداثة الإقبال على تجديد الدرس الفلسفي الجامعي بالعراق، ومحاولة العودة إلى موروثه الفلسفي الريادي التنويري الزاهر لكونه يلامس الإنسان، والذي بدأ منذ القرن الثاني الهجري بمدينة الكوفة مع جابر بن حيان (توفي في حدود 200 هـ)، ليس بعيداً عن تجربة واصل بن عطاء (81 – 131 هـ) يوم كان يشيّد في مدينة البصرة عمارة النَّظر العقلي الكلامي عبر تطلُّعات مشروع المعتزلة التأسيسية آنذاك، ومن ثم أخذ الفيلسوف الكندي (185 – 256 هـ) زمام المبادرة حتى بدا المهندس الميداني للمعرفة الفلسفية بين الحيرة والكوفة وبغداد، وأحد روّاد لغة وبلاغة الكتابة الفلسفية في زمانه تحت أنوار (بيت الحكمة) الذي انخرط في مشروعه المعرفي والفلسفي والعلمي النَّهضوي آنذاك بُعيد تأسيسه عام 215 – 217 هجرية، حتى صنع مجده الذهبي لكونه انطلق من رؤية تاريخانية (Historicity vision) تعي حركة ما يجري كاشتغال بشري يُدرك أهمية خلق بنية معرفية منظَّمة من حيث التكوين والغايات حتى صار ذلك البيت وهج زمانه وأحدوثة عصره.
جاء تأسيس قسم الفلسفة في بغداد عام 1949/ 1950 لحاجة مؤسساتية – معرفية ماسَّة في حينه. وفي ظلِّ ذلك، حاول الرعيل الأول من أساتذة الفلسفة استنفار الدور الثقافي التنويري لهذه المعرفة الراقية وجعلها تمشي بين الناس على قدمين معرفيين بالعودة إلى سطوع المعرفة الفلسفية التنويري العربي القديم لكونه لامس الإنسان، لكنَّ أقطاب ذلك القسم عاشوا في عزلة معرفية في المجتمع مكّنتها سطوة الإيديولوجيات الارتدادية التي مرّت بظلالها الدَّموية في عراق النِّصف الثاني من القرن العشرين؛ بحيث دفعت تلك الأقطاب نحو هاوية الخوف والتهميش والعزل والانزواء. وكل ما فعلوه أنهم هيأوا جيلاً من تدريسي وباحثي المعرفة الفلسفية، أولئك الذين شغلوا كراسي التعليم الفلسفي الجامعي، ومن ثم الثانوي، وكذلك شاركوا في كتابة بحوث فلسفية أغلبها لا يعدو أن تكون مطلباً من متطلّبات الترقيات العلمية التدريسية الجامعية لتلبي صوتها في ذاتها ولذاتها من دون استجابة لما يحدُث في الواقع اليومي، وما تجري فيه من تحوّلات طاحنة – مع استثناءات قليلة – كان الأجدر بجيل كامل من المتخرجين الانخراط في أتونها؛ أتون ما يحدث في الواقع اليومي والمعرفي غير الاستهلاكي، والتصدِّي لمجرياته، سوى نفر قليل لكنه متألق آثر ربط المعرفة الفلسفية بحراك الواقع ضمن أيديولوجيات يسارية وأخرى يمينية مُعينة (ياسين خليل، حسام الألوسي، علي الجابري، مدني صالح) إلى جانب نفر آخر تمكَّن من الانخراط في كتابات فلسفية معرفية مبسَّطة في الصحف اليومية والمجلات الشهرية والفصلية العراقية رغم المخاطر التي كانت تحف بتلك المبادرات الكتابية التنويرية ضئيلة العدد.