إن الدراسات المتعلقة بالسياسة تهم الانسان ولا شيء آخر غير الانسان. فالفلسفة والبيولوجيا والسوسيولوجيا والبسيكولوجيا والثيولوجيا والطب و… تستهدف الانسان ككائن أسمى فوق هذه الأرض للحفاظ عليه من كل مكروه يهدد حياته ويعرضه للفناء… (ترفض حنة ارندت الحديث عن الإنسان كفرد بل كجماعة وكيان ومجموعات بشرية)
وبما أن الانسان كائن اجتماعي حسب جون جاك روسو، فإنه يحتاج للآخر ولو كان خطيرا -الاخر هو الجحيم-(سارتر) أو ذئبا وشريرا (هوبز).. فالسياسة تلعب دورا مهما في تقارب والتقاء المصالح ونبذ مسببات العنف والتهديد التي تلحق الضرر بالانسان وبحريته وحياته ومصالحه (الانسان ضد الانسان طبعا)
إلا أن الغالبية ارتبط لديه مفهوم السياسة بكل ما هو سلبي وخطير على البشر، فالسياسة تعني المكر والخذاع والكذب، وتزييف الواقع بقلب الكلمات والمفاهيم ورصد احصاءات وأرقام مضللة واظهار واخفاء معلومات حسب الضرورة (السياسة الداخلية)، – يقول جاك دريدا في كتابه تاريخ الكذب: من المعروف أن السياسة تعتبر مجالا خصبا للكذب وهذا ما تشير اليه حنة أرندت في أكثر من مناسبة – أو بالبروباغندا الاعلامية واتفاقات ومعاهدات مزيفة وكيانات اقليمية ودولية تحاول اضفاء شرعية مزيفة على النظام والمجتمع الدولي (السياسة الخارجية).
فمتى ظهرت السياسة؟
ترجع حنة أرندت زمن ظهور السياسة الى الفترة اليونانية، وتتعجب من بقاء الانسان على كوكب الأرض كل هذه الفترة بسبب السياسة التي نشرت -واحتوتها في بعض الأحيان-الحروب والصراعات منذ الأزل -إنها لحقا معجزة- (تقتبس الاعجاب من القديس سانت أوغسطين)، لكن السياسة في العصر اليوناني نجحت في حماية الانسان داخليا (السياسة الداخلية) وتوزيع السلطات بين عدة هيئات وتوفير جو من السلم والحرية، فالسياسة مقترنة بالحرية حسب اليونانيين… أما السياسة الخارجية فلم يعرفها اليونايين ولم يتواصلوا مع جيرانهم, ولم يبنوا علاقات دبلوماسية وسياسية متينة، ما عجل بحرب طاحنة مع الطرواديين فأبادوهم.
مورست السياسة عند اليونانيين، وسموها البوليس polis، وكان الهدف من السياسة تنظيم حياة الأفراد، فهي تحتاج إذن لتمارس حسب أفلاطون وأرسطو لأناس أحرار، ما جعل أرسطو يستبعد العبيد والنساء، فالهدف الأسمى من السياسة يكمن في الحرية، ولتكون حرا عليك أن تكون شجاعا، أما الجبناء فهم عبيد…
تذهب حنة أرندت منحى فريديرك نيتشه الذي أقر أن الهدف من السياسة هو الحفاظ على السلطة في يد أشخاص كثر، فإن تجمعت القوة في يد واحدة قد تجعل منه ديكتاتورا وقد يكون خطرا على البشرية…
إن السياسة بنيت في الأصل على التنظيم والتشاور من أجل ضمان الحريات والسلم الاجتماعي داخل الفضاء السياسي.
لكن ما السبيل إذا عجزت السياسة عن ضمان الحريات وإحلال السلم ؟
يذهب الكثير من الفلاسفة إلى شرعنة العنف كوسيلة لا علاقة لها بالسياسة لفرض القانون وضمان الحريات، (ماكس ڤيبر وميكيافيلي مثلا دون أن تشير إليهم)… كما استدلت الفيلسوفة الألمانية – ترفض هذا الاسم وتصر على أنها مهتمة بالفكر السياسي- بكتاب “روح القوانين” لمونتيسكيو، للحديث عن الأنظمة الحاكمة والاختلافات بينها…
يرى ميكيافيلي أن العنف وسيلة يستعملها الحاكم أو السياسي ليس كهدف أو غاية بل كوسيلة للوصول إلى الغاية وهي الحرية (الغاية تبرر الوسيلة)، وترجع أرندت أصول العنف إلى العائلة وهو سلوك سبق السياسة، لكنه انتقل إليها، فالسياسة هدفها حل المشاكل بدبلوماسية وسلمية، لكن إذا فشلت السياسة في احتواء الوضع، ووصلنا لطريق مسدود، نستعمل العنف والحرب في آخر المطاف، ويبرر البعض العنف بطرق ومبررات شتى كإحلال السلام، وفرض الهيبة ومعاقبة المعتدي وحفظ وضمان الحريات.. فاستعمال العنف هنا جاء لإحلال السلام، ما يجعلنا أمام حلقة مفرغة وغير منطقية.
أما بالنسبة للأنظمة الشمولية والديكتاتورية فهدفها من العنف ليس إحلال السلام بل إبادة الآخر بدون مبرر أو بمبرر واه ( الهولوكوست، مجازر الاستعمار والحروب الدينية…)
لقد صُدم العالم الحديث من هول الدمار الذي أحدتثه القنبلة النووية، فأصبحت واقعا دمر وأباد شعب اليابان- بدل الألمان الذي أشعلوا الحرب- وأصبح الإنسان خائفا من أن يتم إبادته لأسباب سياسية، إنه نفس الخوف الذي طارد إنسان العالم القديم عندما أباد اليونانيون شعب طروادة وأباد الرومان قرطاجة (التاريخ يعيد نفسه)، ونستشف الحسرة والخوف والمشاعر السلبية من أشعار هوميروس وفيرجيل حول هذه الحرب (حرب طروادة وحرب قرطاجة)
خلص الانسان الحديث -بعد إبادة شعب اليابان في الحرب العالمية الثانية- إلى ضرورة توسيع نطاق الفاعلين السياسيين في الحقل الدولي، فتم تطوير القانون الدولي بتفرعاته (القانون الدولي الانساني، العلاقات الدولية، محاكم جنائية دولية، اتفاقات ومعاهدات ملزمة، منظمة الأمم المتحدة، مجلس الأمن، كيانات اقليمية، تقوية دور الوساطة والتحكيم…..) فنجحت هذه المؤسسات الدولية في احتواء الكثير من الصراعات رغم ما يعاب عنها (الحرب الباردة كمثال)، إلا أنها سياساتها بقيت منحازة ومحط انتقاد دائم بسبب دعم دول على حساب أخرى وحل صراعات وتأجيج أخرى (اجتياح العراق والفيتنام وأفغانستان من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، وازدواجية المعايير بين احتلال اسرائيل لفلسطين وبين احتلال روسيا لاوكرانيا، وحرب الخليج …)
فهل لازال للسياسة معنى في ظل الكم الهائل من الحروب والصراعات -سواء الداخلية أو الخارجية- التي نشهدها؟
تجيب حنة أرندت:
منذ اكتشاف القنبلة النووية قد أضيف خوف مشروع جدا، تمثل في أن الإنسانية ستمحى من على وجه الكرة الأرضية بواسطة السياسة، وبواسطة وسائل العنف التي تمتلكها. انطلاقا من هذا الخوف يولد الأمل في عودة الإنسانية إلى العقل، وأنها ستتخلص من السياسة أقرب من كونها ستتخلص من نفسها.
عبدالحق مومن
لتحميل الكتاب