قراءة في كتاب

أنتربولوجيا الإنسان الضاحك

(خالد طحطح)
صدرت الترجمة العربية لكتاب الضحك: أنتربولوجيا الإنسان الضاحك عن دار معنى للنشر والتوزيع، لمؤلفه عالم الاجتماع الفرنسي دافيد لوبروتون (2021)، وقد تركزت أعمال هذا الأخير بشكل أساسي على قضايا الحياة اليومية ومواضيع الحواس وقضايا أنتربولوجيا الجسد والمخاطر.
هذا الكتاب الذي ترجمه فريد الزاهي إلى لغة الضاد ليس تنظيرا للضحك بقدر ما هو تحليل لنفسية الإنسان الضاحك ودراسة لأنثروبولوجيا الضحك في جوانبه الاجتماعية والنفسية والعاطفية والجسدية، وتناولا لدلالاته المتنوعة التي تتغير تبعا للظروف والأمكنة والسياقات. فالضحك كوني، لكن أسبابه ليست كذلك.
الضحك ليس دائما عفويا، فنحن نربطه بمواقف اجتماعية معينة وفقاً لمعايير محددة، والتي تغيرت كثيرا في عصرنا. تحدث الكثير من الأمور حين يضحك المرء. فهناك حركات للجسم مرتبطة به، من قبيل تمدد ملامح الوجه، وما يصاحبها من اندفاعات صوتية.
لماذا يضحك المرء وعن ماذا يضحك؟ وماذا تقول لنا الدعابة في كل عصر وكل ثقافة؟ وما الذي يجعل المرء يبتسم ابتسامة ناعمة؟ وما الذي يؤدي به إلى الانفجار في ضحك هستيري لدرجة الاستلقاء على الظهر؟
هل الضحك سلوك فطري عالمي أم مكتسب؟ نتساءل متى وإلى أي مدى تختلف أشكال الضحك في العالم؟ وما هي أنماط وجوده الاجتماعي والثقافي؟ وكيف يمكن أن يكون الضحك سلوكًا يتطلب قواعد وطقوسًا أحيانا؟
هل نتعلم الضحك وما طرق انتقاله؟ وهل هناك أصناف من الضحك؟ وهل للضحك تقنيات وأساليب؟
حاولت مقاربات عدة الإجابة عن هذه الأسئلة ومثيلتها، وقد تعددت التعريفات التي أعطيت للضحك والفكاهة والنكتة والطُّرفة في التاريخ والفلسفة وعلم النفس. فهذا الموضوع قديم جدا، حتى أن بعض الشعوب اعتقدت أن العالم خُلِقَ من سبع ضحكات. ولعل كلمة الضحك لا تكاد تذكر دون أن يتبادر إلى ذهن القارئ عنوان الكتاب الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، حيث جعل العبارة le rire عنوانا له. تناول هذا الفيلسوف إحدى الخواص المميزة للضحك وجوباً، وهي تواجد جماعة من الناس. فلكي نفهمه لا بد أن نتمثله في محيطه الطبيعي (المجتمع)، إذ لا يستطيع الإنسان الضحك إلا بتواجد الآخرين بقربه، لأن الضحك يحتاج إلى أن يكون له صدى، وأن يجد له تجاوبا ثنائيا أو جماعيا، ولذا لا يتصور الضحك في غياب الآخرين. ففي هذه الحالة قد يعد نوعا من الجنون وضربا من الحمق.
تعرَّض تفسير برغسون للضحك الذي ربطه بشكل آلي بوجود الرفقة إلى معارضة شديدة من قبل المفكر المجري آرثر كوستلر كما بين نصر الدين البحرة في كتابه الضحك تاريخ وفن. وفي موضوع السخرية نشير أيضا إلى أهمية أطروحة الدنماركي سورين كيركيغارد (1813- 1855) وهي بعنوان: حول مفهوم السخرية، لكن تظل الدراسة التاريخية – الأدبية لميخائيل باختين عن رابليه وعالمه والتي نُشِرَت تحت عنوان: رابليه والثقافة الشعبية في العصور الوسطى وإبان عصر النهضة من أهم الأبحاث التي تناولت تيمات الضحك والسخرية والهزل بجميع أصنافها. ركزت هذه الدراسة على الطقوس الهزلية القدحية، والتي يمكن تسميتها بالضحك الشعائري. فمثلا أثناء الاحتفال بالأبطال كان هناك تجسيد مماثل لنظرائهم من الساخرين. وعليه، فإنه من العسير فهم الثقافة السائدة في العصر الوسيط وبعده دون استحضار إسهامات الضحك الشعبي.
لا يمكننا الحديث عن موضوع الضحك دون الإشارة لرواية اسم الوردة التي جمعت بين الإثارة والمتعة. ففي متاهة هذه الرواية اللغز نتوقف أمام جدالات لاهوتية عميقة تعكس الخلافات الشديدة التي كانت سائدة آنذاك بين التيارات المسيحية المختلفة المشارب، ومن بين المواضيع الخلافية داخل الدِّير الذي تجري فيه الوقائع مسألة فقر المسيح، وكذا قضية غواية الضحك والهزل؛ ففي ثنايا الأحداث نجد الرَّاهب الأعمى يعمل ما بوسعه لحجب كتاب أرسطو المعروف باسم “الكوميديا” عن الأعين التي تسعى لمعرفة ما بداخله، حيث أخفاه في مكان يصعب الوصول إليه داخل متاهة مكتبة الدير؛ فكان كل من سوَّلت له نفسه الاقتراب من الرفِّ الذي يوجد به الكتاب المذكور، يُقتل في ظروف غامضة. لمزيد حِرْصِه عَمِلَ “يورج” على وضع مادة خطيرة بين صفحات الكتاب، ليحول دون السَّماح لأيِّ شخص من قراءة الكتاب خفية. وحينما تناقش المحقِّق “غوليمالو” مع الرَّاهب “يورج”، حول موضوع الضَّحك وعلاقته بالدين المسيحي، عبَّر الأخير صراحة عن تحريم كل الأشكال المرتبطة به، من مرح وهزل. ولما طلب منه زائر الدِّير أن يُبيّن له سبب رفضه بالأدلة الدينية أجاب بكون السيِّد المسيح لم يحْكِ في حياته هَزْليات، ثم أتبع بالقول إن الضَّحك من وجهة نظره دافع إلى الارتياب والشكِّ في اليقينيات الدِّينية، وهو ما يُمثل خطرا على الإنسان لأنه المسؤول عن “مسخ طبيعتنا البشرية”، لمِاَ يقوم عليه من تشجيع للتفسخ الأخلاقي والقيمي. وكان أول نقاش أثار شكّ المحقق “غوليمالو” في المسؤول عن أحداث القتل الغامضة التي تقع في الدير ذلك الحوار الذي دار حول نفس الموضوع بباحة مكتبة الدِّير المخصَّصة لقراءة الكتب، حيث كانت إجابة “يورج” صارمة عن سؤال طُرح للنِّقاش بخصوص ما إذا كان السَّيِّد المسيح قد ضحك يوما، بقوله: “أنَّ ذلك لم يقع قط”.
إن الإشكالية التي أراد كاتب الرواية الإيطالي إيصالها إلى الجمهور القارئ تتعلق بكون الهاجس الأكبر الذي سيطر على السلطة والكنيسة في القرون الوسطى إنما كان يتمثل في الخوف من الضَّحك، باعتباره مخالف للتعاليم الدينية، وهذا هو السبب الذي جعل الرَّاهب “يورج” يعمل ما بوسعه لإخفاء كتاب أرسطو حتى لا تصله أيدي المتلصصين من الرهبان داخل الدِّير المعزول، بل إنه تعمد تسميمه بأعشاب قاتلة. وقد اضطر في النهاية إلى إحراق المكتبة لكي يحميها من غواية الضحك.
لم يكن الضحك دائمًا مبجلا، فأفلاطون في الجمهورية يصنفه ضمن سلوكيات الطبقات الاجتماعية الدنيا، فلا يجب في نظره ميل الأوصياء إلى الضحك، لأن الانغماس في الضحك يؤدي إلى تغيير في الروح، وعليه فمن غير المقبول لديه أن يمثل المرء رجالًا محترمين يهيمن عليهم الضحك.
بعد الخطيئة الأصلية لم يعد لدى آدم وحواء قلب يضحك، بل خصصا غالبية أوقاتهما للبكاء. والكنيسة بدورها عارضت الضحك وساوته بالمنحى الشيطاني. ففي نظرها لا يوجد شيء يدعو للضحك بعد آلام المسيح. كما أن العبادة تتنافى مع الضحك والهزل، ولذلك قارن الراهب في رواية اسم الوردة بين الضحك والشيطان، لأنه يصرف الإنسان عن مخافة الله.
يظل الضحك جزءا من الحياة اليومية، ولهذا اهتم الفلاسفة بجوهره منذ آلاف السنين وربطوا بينه وبين السخرية من الذات والآخرين، وفي الفترة المعاصرة انضاف علماء النفس الذين وضعوا خلال القرن الثامن عشر نظرية التنفيس عن الذات، وذلك عبر ما تتيحه إمكانيات الضحك المتعددة من تحرير الطاقة والمكبوت، من الهزل الخفيف والدعابات الطفيفة والسخرية اللاذعة إلى المحاكاة التهكمية والهزل الفاحش والنكات الماجنة المصحوبة بحركات بذيئة وتلميحات مضحكة.
نتلمس دائما في اللهو ترويحا عن النفس وتهربا من الواقع المر. فحين يمل المرء من الجدية والصرامة والسأم يجد الملهى فيما يمكن تسميته “التطهير الكوميدي”، إذ الكوميديا في استطيقا الضحك لشارل لا لو هي الدواء المطهر للنفس من الهم والقلق والاضطراب واليأس، ولهذا السبب كان يتم توظيف المهرجين في القصور.
لا يوجد شخص لم يضحك قط في حياته أو غير قادر على الضحك أو التبسم، ومع ذلك لا يمكن حصر تعريف الضحك في هذا المفهوم العالمي البسيط الذي يربطه بالمزاح ولحظات السعادة، ذلك أن الناس لا يضحكون لنفس الأسباب ولا بنفس الطريقة، فهو ليس صادرا عن الوراثة أو البيولوجيا، وإنما عن وضعيات اجتماعية خاصة اعتاد الناس في كل منها ربطها بالضحك، فما يجعل أحدا يتمرغ على ظهره من الضحك قد يثير الضجر لدى شخص آخر، والكلام المازح الذي يثير المرح في مكان ما قد يولد الموت في مكان آخر. ولأن الضحك تختلف معانيه حسب الظروف، فالأفضل لنا أن نضحك من ذلك، وهذا من مفارقات الضحك الذي وجب تصوره دائما بصيغة الجمع لا المفرد.
لا يعبر الضحك بالضرورة عن الفرح، بل ولا حتى عن الطابع الهزلي للأشياء، وحتى المقاربات العصبية البيولوجية التي حددت العلاقة بين اللذة والضحك تبقى قاصرة عن بلوغ كنه الضحك وجوهره. لا يمكن فهم الضحك بتحليله فقط من زاوية ما يكون باعثا عليه، فهو يكون أحيانا تعبيرا عن الفرح والمزاج الرائق لكنه حاضر في حالات اليأس أيضا كما في حالات إبعاد عاطفة ما أو تحدي أشخاص مُخالفين، وأحيانا يكون الضحك سلوكا مصطنعا يهدف المرء من ورائه إلى حفظ ماء الوجه أو إخفاء فشله في اتخاذ قرار ما أو يحضر حين يحس الإنسان بالإحراج، وفي وضعيات قهرية قد يلجأ الأفراد للضحك ترويحا عن النفس وتنفيسا عنها، وفي بعض الحالات يصبح الضحك انتقاصا ونقدا للذات.
تمنحنا بعض من المعاني السابقة مدى الالتباس المحيط بلفظة الضحك، والذي يفصح عن معناه بالدلالة التي صدر فيها، والوضعية التي حصل فيها، فهو يتغذى من نسيج من التصورات والقيم الغامضة الخاصة بمجموعة اجتماعية في عصر معين، فليس ثمة من جوهر للضحك، فكل مظاهره مرتبطة بعاطفة من العواطف، وهذا الاستنتاج الذي حاول توضيحه لوبروتون يتعارض مع اعتقاد الفيلسوف برغسون بشأن لاتمازج الضحك والعاطفة. توضح أطروحة كتاب الإنسان الضاحك على أن الجسد والعوامل الاجتماعية والثقافية والعلاقات بين الأفراد هي في تفاعل دائم، لذلك يجب فهم الضحك على أنه ظاهرة متحركة ومتقلبة في الصيرورة الزمنية.
الضحك هو المادة الخام لأغلب العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فهو يصاحب الحوارات والمحادثات الثنائية، وتساهم الصداقات في خلق نوع حميم من الضحك يفرضه سياق تقاسم اللحظات المشتركة، فتتعزز اللحمة بين المتفاعلين وتغدو أكثر صلابة بالدعابة، ومن ثم تأتي استحالة تقاسم الضحك مع شخص مكروه أو غير مقبول.
تتطلب كل وضعية خلطة خاصة لإثارة الضحك، ففي العديد من الوضعيات غير الملائمة المرتبطة بمقلب أو حادث هزلي قد لا تمنح الرغبة في الضحك والسخرية بقدر ما تثير في النفس الاشمئزاز والحنق والألم.
كتاب لوبروتون لا يهتم بالهزل والمزاح فقط، بل مَرْكَزُ التحليل عنده مُنصب على الإنسان الضاحك المنغمس في وضعيات متباينة لا يكون فيها الهزل إلا جانبا من جوانب القضية. فليس هدف المؤلف من كتابه دراسة الضحك من منظور ما يبعث على السخرية بقدر دراسته للضحك من منظور الجسد لفهم الاستعمالات المتناقضة والملتبسة للضحك، بوصفه مظهرا جسديا مُلغزا، مما يجعله موضوعا مندمجا ضمن الأبحاث الأخرى التي خصصها لوبروتون لأنتربولوجيا الجسد والألم والصمت والمشي والبسمة والمخاطر، وهو لا يستدعي الجسد فقط في دراسته للضحك، بل يستحضر سياقاته الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والفلسفية، متنقلا بين مختلف الثقافات من الشرق إلى الغرب، مخترقا الأزمنة التاريخية لتقديم صورة أعمق وأشمل عن تمثلات الضحك ومكانته في أشكال التواصل الإنساني.
لقد أظهر لنا دافيد لوبروتون براعته في عرض موضوعه، حيث لم يتجاهل بتاتا أي شيء له علاقة بالضحك أو يُحيل عليه. فكل شيء مُسلي تجده حاضرا في سياقه. كما أسهب في إبراز استخدامات الضحك في التاريخ والمجتمع والثقافة، مقتفيا جوانبه الذهنية والوجدانية. فالضحك ليس موضوعا طارئا كما قد نتصور، بل هو متجذر في سياقات اجتماعية وتاريخية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى